كتب

دروز فلسطين أسرى البندقية "الإسرائيلية".. قراءة في كتاب

البندقية الإسرائيلية نجحت نسبيا في ترويض وتهجين القيادات الدرزية وشرائح من الطائفة، إلا أنها لم تستطع منع استمرار تمرد شرائح أخرى ضد حمل البندقية الإسرائيلية وضد تهجين الهوية..
البندقية الإسرائيلية نجحت نسبيا في ترويض وتهجين القيادات الدرزية وشرائح من الطائفة، إلا أنها لم تستطع منع استمرار تمرد شرائح أخرى ضد حمل البندقية الإسرائيلية وضد تهجين الهوية..
الكتاب: دروز في زمن الغفلة، من المحراث الفلسطيني إلى البندقية الإسرائيلية
المؤلف: قيس ماضي فرّو
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية


تعتبر الطائفة الدرزية من الطوائف الدينية الأقلية في الشرق الأوسط. لديهم تاريخ طويل ووجود مميز في فلسطين التاريخية، ويرتبطون بالعقيدة الدرزية التي تفرعت عن الإسلام الإسماعيلي في القرن الحادي عشر.

يتركز الدروز في فلسطين التاريخية بشكل أساسي في المناطق الجبلية في شمال فلسطين، خاصة في الجليل. ومن أبرز القرى الدرزية في الداخل الفلسطيني اليوم: دالية الكرمل: تقع جنوب مدينة حيفا، عسفيا: مجاورة لدالية الكرمل، وتشكل القريتان منطقة متصلة تعرف بالكرمل، بيت جن: تقع في الجليل الأعلى، يركا: من أكبر التجمعات الدرزية في الجليل، جولس وحرفيش: قريتان إضافيتان بارزتان.

وللدروز وجود تاريخي في فلسطين منذ قرون. وقد تميزوا بحفاظهم على خصوصيتهم الثقافية والدينية. وعبر التاريخ، كانت العلاقة بين الدروز والمجتمعات الأخرى تتسم بالتعاون أحيانًا وبالتوتر في أوقات أخرى، بحسب السياق السياسي والاجتماعي.

بعد قيام دولة إسرائيل عام 1948، أصبح معظم الدروز في فلسطين التاريخية مواطنين إسرائيليين. ومن السمات البارزة لعلاقتهم بالدولة: الخدمة العسكرية، المشاركة السياسية.

ويتحدث الدروز اللغة العربية كلغتهم الأم، كما أنهم جزء من النسيج الثقافي العربي. ولذلك تنقسم الهوية الدرزية بين انتماء عربي وإسلامي تاريخي وبين ارتباط قانوني وسياسي بالدولة الإسرائيلية.

ويواجه المجتمع الدرزي اليوم تحديات تتعلق بالمحافظة على تقاليدهم وثقافتهم وسط التغيرات السريعة في العالم الحديث. وهناك نقاش داخلي بين الدروز حول علاقتهم بالدولة الإسرائيلية، خاصة بعد قانون القومية الإسرائيلي الذي أقر عام 2018 وأثار انتقادات واسعة لكونه يعزز هوية الدولة اليهودية على حساب الأقليات.

الكاتبة والباحثة عبير فؤاد، تعيد قراءة واقع تاريخ الدروز في فلسطين من خلال عرض كتاب "دروز في زمن الغفلة، من المحراث الفلسطيني إلى البندقية الإسرائيلية"، للكاتب قيس ماضي فرّو، في محاولة لفهم العقلية الإسرائيلية في التعامل مع الأقليات أولا، ثم في فهم هوية الدروز وانتمائهم العربي.. وهي قراءة تضيف جملة من الخلاصات للقراءة التي كانت الدكتور ة إلهام جبر شمالي قد دونتها هنا في "عربي21" في نيسان / أبريل الماضي في قراءة أولى لها لذات الكتاب.

"العلاقات الدرزية الصهيونية" في عهد الانتداب البريطاني

يعيد الباحث الفلسطيني قيس ماضي فرّو قراءة "العلاقات الدرزية الصهيونية" في عهد الانتداب البريطاني، وما بعده إلى حد كبير، بكثير من التوسع والتحليل، معتمدا "بحذر شديد" على الأرشيفات الإسرائيلية، والشهادات الشفهية، التي يرى أنها تساعد في "تحليل الوثائق، وسد الثغرات" في هذه الأرشيفات.

ورغم أن العديد من المؤرخين الإسرائيليين قد سبقوه إلى تناول هذه العلاقة بالدراسة والبحث، يرى فرّو أنهم في الواقع "بنوا سرديات تاريخية تعكس رؤية الناشطين الصهيونيين في تلك الفترة، وتبني هذه العلاقات طبقا لحاضرها المتصوّرعندهم". إذ يرون بالإجمال أن ثمة مشتركات تاريخية بين اليهود والدروز حتمت إقامة "حلف" بينهما.

لكن فرّو، الذي ينتمي إلى هذه الطائفة، يرى أنها لم تكن يوما كتلة واحدة متماهية مع الحركة الصهيونية، بل وعرفت مواقف سياسية متباينة لأبنائها تجاه المؤسسة الصهيونية، فضلا عن أنه لا يمكن إغفال دور العديد من العوامل الذاتية والموضوعية (اقتصادية ـ اجتماعية ـ سياسية) التي ساهمت في رسم علاقة الطائفة بالدولة الإسرائيلية.

خطوتان كان لهما التأثير الأكبر، بحسب فرّو، في فصل وعزل الدروز عن سائر الطوائف العربية، وفي مسار تطورهم السياسي والاقتصادي والثقافي في الدولة الصهيونية حتى أيامنا هذه: فرض التجنيد الإجباري في العام 1956، وسن قانون تنظيم الطائفة الدرزية في الكنيست في سنة 1957.
بحسب فرّو فإن الخطابين الإعلامي والأكاديمي الصهيونيين تجاه الدروز قد بدأهما يتسحاق بن تسفي، ثاني رئيس للدولة الصهيونية (1952-1963)، وهو أول ناشط صهيوني أقام علاقات مع بعض وجهاء دروز فلسطين خلال فترة الانتداب. وقد كتب مجموعة من الدراسات والمقالات التي روج فيها لسرديات أصبحت جزءا أساسيا من هذين الخطابين. منها الحديث عن التشابه بين الدروز واليهود كأقليات عانت من الاضطهاد الديني من جانب الأكثرية، "بلغ أحيانا حد السلب والنهب والمذابح" وكل ذلك "سّهل عليهم(الدروز) فهم نفسية الأقلية اليهودية المضطهدة".

ومعظم الكتاب الإسرائيليين، فيما بعد، الذين كتبوا عن "الدروز محبي إسرائيل"  اعتمدوا على نصوص بن تسفي هذه، مغيبين نصوصا أخرى له يصف فيها الدروز بـ "المتوحشين.. الذين هاجموا الأحياء اليهودية في صفد في سنة 1567، وسنة 1604". وهكذا روّج الباحثون الصهيونيون لعلاقات تاريخية حسنة واستثنائية تربط اليهود بالدروز، و"مصير مشترك" متخيّل، ليفسروا بذلك ما سموه "العلاقات الجديدة" التي بدأت خلال فترة الانتداب البريطاني، علما أن الدروز في فلسطين، حتى العام 1950، لم يكن عددهم يتجاوز 14 ألف شخص، و"كانوا في معظمهم فلاحين منغلقين في قراهم الجبلية، بعيدين عن الصراع الفلسطيني ـ الصهيوني" وكل ما استطاع ناشطو الحركة الصهيونية تحقيقه في ذلك الوقت هو "تجنيد عدد قليل جدا من المتعاونين الدروز مثلهم في ذلك مثل متعاونين من طوائف فلسطينية أخرى". لكن فرّو يلفت أيضا إلى أن دروز فلسطين خلافا لدروز لبنان وسوريا، ظلوا ملتصقين بهويتهم الطائفية حتى بعد العام 1948.

وذلك بسبب أن القرى الدرزية في فلسطين لم تشهد تغيرات اقتصادية واجتماعية تساعد على ظهور شريحة متعلمة، تتجاوز الأفق الضيق للطائفة إلى آفاق وطنية وقومية أوسع. وبينما أدت النخب الدرزية دورا مؤثرا في السياسة العامة للبنان وسوريا، بقيت نخب دروز فلسطين بعيدة عن السياسة العامة سيما بعد تقسيم الاستعمار البريطاني والفرنسي بلاد الشام إلى كيانات سياسية جديدة.

يقول فرّو إن كل ذلك سهّل على الحركة الصهيونية تحييد الدروز في الصراع قبل العام 1948، وتحقيق استفادة كبيرة من اتباع سياسة فرق تسد بين الدروز أنفسهم، وبين الدروز وبقية أبناء الشعب الفلسطيني، التي انتهجتها بعد قيام الدولة الصهيونية.

بحسب الأرشيفات

يلفت فرّو إلى أن عدم وجود أرشيفات فلسطينية غيّب الكثير من المعلومات عن أحداث ثورة 1936، بما فيها معلومات عن مشاركة الدروز فيها. لكن الأرشيفات الإسرائيلية تحمل بعض المعلومات عن محاولة ناشطي الحركة الصهيونية إبعاد الدروز عن المشاركة فيها، مستخدمين سلاح الشائعات للتفريق بينهم وبين المسلمين. كما أن تقارير لشرطة الانتداب البريطاني قد أشارت إلى انضمام فصيل من الدروز إلى الثوار. وقد انزعج الناشطون الصهيونيون كذلك من انضمام متطوعين دروز من سوريا ولبنان إلى الثورة، بحسب هذه الأرشيفات.

ويذكر فرّو أن محاولات هؤلاء النشطاء لاستغلال كل فرصة لفصل الدروز عن محيطهم الفلسطيني لم تتوقف، فلم يفوتوا أي حادثة أو خلاف بين الدروز والمسلمين، أو بين القرى الدرزية وبعض من فصائل الثوار، إلا وحاولوا من خلالها إثارة مشاعر الخوف عند الدروز، حتى وصل بهم الأمر لوضع خطة لترحيل الدروز إلى سوريا، وحاولوا إقناعهم ببيع أراضيهم والانتقال إلى جبل الدروز "لإنقاذهم من الخطر المحدق بهم"، مع سعي حثيث لإقناع سلطان باشا الأطرش بهذا الحل، عن طريق شخص يدعى يوسف العيسمي، كان أحد مجاهدي الثورة السورية الكبرى المرافقين للأطرش في منفاه في شرق الأردن، غير أن الخطة باءت بالفشل ودفنت في العام 1945.

من جهة أخرى يرى فرّو أن السياسة الصهيونية الانتقائية في تهجير الفلسطينيين وإبقاء بعضهم، كانت سببا، بدون شك، في بقاء القرى الدرزية في الكرمل والجليل، وربما لأن عدد سكانها لم يكن يتجاوز الـ 13 ألف، فهو لم يكن ليشكل ثقلا ديمغرافيا على الدولة الجديدة. وهذه السياسة لم تكن كذلك منفصلة عن سياسة فرق تسد. ويذكر أنه بعد تهجير أهالي طيرة الكرمل، كمقدمة لتهجير بقية قرى الكرمل، دب الخوف بين سكان دالية الكرمل وعسفيا (قريتان درزيتان) فسارع وفد من القريتين للاجتماع بناشطين صهاينة حيث اتفقوا على "عدم دخول الهاغانا إلى القريتين مقابل تعهد الجانب الدرزي منع دخول أي قوة معادية إليهما".

وبعد أن أحكمت سيطرتها على مناطق الـ 48 فرضت الحكومة الإسرائيلية على السكان العرب حكما عسكريا ظل قائما حتى العام 1966. حيث تمتع الحكام العسكريون بصلاحيات واسعة، شملت فرض الإقامة الجبرية على الناشطين السياسيين، وتقييد حركة التنقل، ومصادرة الأملاك، وغير ذلك من الإجراءات التعسفية. ومن ذلك منع الفلاحين من الوصول إلى حقولهم في مواسم الحصاد، وبما أن الغالبية العظمى من الدروز كانوا يعتاشون من الزراعة، فقد استخدمت الحكومة الإسرائيلية معهم سياسة "العصا والجزرة"، فسهلت لبعضهم ذلك، في الوقت الذي كان يسعى فيه النشطاء الصهاينة بالتعاون مع بعض الشخصيات الدرزية لتشجيع أبنائهم على التطوع في الجيش الإسرائيلي في وحدة أطلق عليها "وحدة الأقليات" التي ازداد عدد المتطوعين فيها تدريجيا. وتبعا لذلك كان يتم تسهيل ظروف حياة العائلات التي لديها أبناء متطوعين في هذه الوحدة، بينما تغلق الأبواب في وجه العائلات الأخرى.

تنظيم الطائفة

خطوتان كان لهما التأثير الأكبر، بحسب فرّو، في فصل وعزل الدروز عن سائر الطوائف العربية، وفي مسار تطورهم السياسي والاقتصادي والثقافي في الدولة الصهيونية حتى أيامنا هذه: فرض التجنيد الإجباري في العام 1956، وسن قانون تنظيم الطائفة الدرزية في الكنيست في سنة 1957. فقد ركزت الحكومات الإسرائيلية منذ العام 1949 على ضرورة منع الأقليات العربية من الائتلاف في مجموعة واحدة تكون "عربية في هويتها القومية وإسلامية في ديانتها"، ولذلك فإن "تنظيم الطائفة" كان يقصد به فصلها قضائيا وتعليميا عن المسلمين وبقية الفلسطينيين، وربطهم إداريا وسياسيا بالدولة الصهيونية.

أما فرض التجنيد الإجباري فقد قوبل برفض كبير، رغم وجود بعض المؤيدين له بين أبناء الطائفة، ورغم سياسة العقوبات الشديدة ضد رافضيه، وحتى مطلع 1957 لم يصل عدد الماثلين في مكاتب التجنيد لأكثر من 84 من أصل 507 مطلوبين للتجنيد. وفي العام نفسه رفع عدد من مشايخ شفا عمرو والقرى المجاورة عريضة إلى رئيس الحكومة قدموا فيها أسباب معارضتهم التجنيد، موضحين أنهم "عرب والعربي لا يحارب أخاه العربي في أي حال ومكان" وأنهم مستعدون للخدمة في مجالات مدنية أخرى، وأنه يجب معاملة الدروز في إسرائيل نفس معاملة سائر العرب فيها.

يشير فرّو إلى أن حركات رفض التجنيد لم تتوقف واتخذت أشكالا متعددة، لكن سياسات إسرائيل الاقتصادية القاسية بحق الدروز وبقية العرب، لا سيما الاستيلاء على أراضيهم، مكنت الحكومات الصهيونية المتعاقبة من استمرار تطبيقه. لقد اعتبرتهم "دروزا فحسب عندما كان الأمر متعلقا بخدمتهم العسكرية، واعتبرتهم عربا كسائر العرب عندما كان الأمر متعلقا بمصادرة أراضيهم ومعالجة قضاياهم الاقتصادية". ويلفت إلى أن "خسارة مساحات واسعة من الأراضي كان أحد العوامل الرئيسية لدفع القوى العاملة في القرى الدرزية إلى البحث عن عمل خارجها في سوق العمل الإسرائيلية. فمنذ قيام الدولة الصهيونية حتى أيامنا هذه، خسر سكان قرى يسكنها دروز الجليل والكرمل 68% من مساحة أراضيهم التاريخية".

السنوات التي تلت حرب 1967 شهدت قفزة كبيرة في أعداد العاملين الدروز في أذرع الأمن الإسرائيلية المتعددة، بسبب الطلب المتزايد عليهم لضبط الأمن في المناطق المحتلة.
يقول فرّو: إن خدمة الدروز في الجيش الإسرائيلي لم تشفع لهم ولم تحمهم من سياسة مصادرة الأراضي. وتكفي الإشارة إلى حالة قرية "بيت جن" لتوضيح المفارقة بين تعامل السلطات الإسرائيلية مع الدروز كعرب في المجال الاقتصادي، وكدروز حلفاء في المجال الأمني ـ العسكري، إذ سمحت هذه السلطات لجنود بيت جن وقرى درزية أخرى بالدخول إلى أراضي القرية المصادرة للتدرب فيها على خوض الحرب، بينما منعت فلاحيها من دخولها. يقول فرّو إن هؤلاء الجنود استطاعوا دخول أراضي القرية "عندما استبدلوا محاريث آبائهم وأجدادهم ببنادق إسرائيلية".

ويضيف فرّو أن السنوات التي تلت حرب 1967 شهدت قفزة كبيرة في أعداد العاملين الدروز في أذرع الأمن الإسرائيلية المتعددة، بسبب الطلب المتزايد عليهم لضبط الأمن في المناطق المحتلة. وحدث ذلك في الوقت الذي كانت فيه عملية تسوية الأراضي المصادرة وهجرة الزراعة جارية، وهو ما أدى، بحسب فرّو، إلى نتيجتين متناقضتين: زيادة انخراط قوى عاملة درزية في أجهزة الأمن، وبروز حركات احتجاج في أوساط المتعلمين الدروز، دعت إلى إلغاء التجنيد وإلى المساواة الاقتصادية.

يذكر فرّو أن بعض أعضاء اللجنة النقابية الثقافية، التي أقيمت في العام 1955، سعت لتجنيد المعلمين ضد سياسة الزعماء التقليديين للطائفة، المتماهية مع قرارات الحكومة الإسرائيلية، وضد تدخل السلطات في الشؤون الدينية للدروز. لكن نشاط هذه اللجنة توقف بعد أشهر، نتيجة انقسام أعضائها إلى فريق قرر الابتعاد عن النشاط السياسي، وآخر اعترض على سياسة فصل الدروز عن العرب، وثالث ركز نشاطه على "دمج الدروز" في المجتمع الإسرائيلي.

وظلت هذه المواقف المتباينة محركا لبروز تجمعات ومنظمات مختلفة على مدى العقود التالية، تتلاعب ببعضها وعود الحكومات المتعاقبة بتحقيق المساواة الكاملة لها في المجتمع الإسرائيلي. يقول فرّو إن "البندقية الإسرائيلية نجحت نسبيا في ترويض وتهجين القيادات الدرزية وشرائح من الطائفة، إلا أنها لم تستطع منع استمرار تمرد شرائح أخرى ضد حمل البندقية الإسرائيلية وضد تهجين الهوية"، ودليله في ذلك هو حركات التمرد المستمرة حتى يومنا هذا، التي ترفض التجنيد وطمس الهوية.
التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم