في محاولة للتحايل على أطفالها الجائعين، تغلي منال قدراً مملوءا بالمياه على النار، موهمة إياهم أنها تعد طعاماً لا تقوى على توفيره، على غرار عائلات كثيرة تعجز عن تأمين قوتها في
الغوطة الشرقية المحاصرة قرب دمشق.
ويعاني أكثر من 1100 طفل في الغوطة الشرقية، أحد آخر معاقل الفصائل المعارضة من سوء تغذية حاد، بحسب منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، جراء
حصار محكم تفرضه قوات النظام منذ العام 2013. ورغم سريان اتفاق لخفض التوتر في المنطقة وتوقف الأعمال القتالية، لكن ذلك لم يسجل تحسناً لناحية إدخال المساعدات الإنسانية.
وتقول منال التي تقيم مع زوجها وأطفالها الأربعة في منزل متواضع في مدينة حمورية في الغوطة الشرقية لوكالة فرانس برس بتأثر شديد: "أملأ قدراً كبيراً بالمياه لأوهم أبنائي أنني أطهو الطعام لهم إلى أن يناموا بعدما ينهكهم الانتظار".
وتوضح فيما تغرورق عيناها بالدموع: "خلال ثلاثة أيام لم يأكلوا سوى الخبز"، مضيفة: "أتمنى أن أتذوق كوباً من الشاي وأشارك به أطفالي. لم نحتس الشاي منذ أسابيع عديدة".
وتحاصر قوات النظام منذ أربع سنوات منطقة الغوطة الشرقية حيث يعيش نحو 400 ألف شخص في ظل ظروف إنسانية صعبة للغاية، ما أحدث نقصاً كبيراً في الأدوية والمواد الغذائية، عدا عن ارتفاع أسعارها بشكل جنوني في حال توفرها. كما تسبب الحصار بنقص الخدمات الرئيسية من كهرباء ومياه نظيفة ومحروقات.
ولا يقوى أبو عزام (38 عاماً)، زوج منال، على العمل بسبب إصابة يعاني منها جراء قصف استهدف منزلهم السابق في مدينة النشابية بريف دمشق وأدت إلى مقتل أحد أطفاله قبل سنوات وقطع رجل ابنه البكر عزام.
واضطرت العائلة التي تعيش ظروفاً صعبة منذ ذاك الحين إلى بيع كل ما تملك وصولاً إلى أثاث المنزل لتأمين قوتها اليومي. والمنزل خال إلا من سرير معدني وفرش على الأرض وقطع أخرى بسيطة... ويقول أبو عزام: "نتناول وجبة صغيرة خلال 24 ساعة، وهذا لا يشبع الأطفال".
الوضع يزداد سوءا
من داخل منزلها المتصدع، تأمل العائلة الفقيرة أن تتلقى مساعدة من منظمات إنسانية، بعدما بات معظم الجيران الذين اعتادوا على مساعدتهم يحتاجون بدورهم إلى الدعم نتيجة الظروف المعيشية الصعبة التي فاقمها الحصار تدريجياً.
ولا يمكن لقوافل المساعدات الدخول إلى الغوطة الشرقية إلا بعد الحصول على موافقة مسبقة من السلطات السورية. ودخلت آخر قافلة تقل مساعدات غذائية وطبية ومستلزمات أخرى إلى ثلاث مدن فقط في الغوطة الشرقية في أيلول/سبتمبر الماضي.
وساهم التوصل إلى اتفاق خفض التوتر في آستانا في أيار/مايو، والذي بدأ سريانه في منطقة الغوطة الشرقية عملياً في تموز/يوليو، في توقف المعارك والغارات العنيفة التي كانت تستهدفها متسببة بدمار كبير في الأبنية والبنى التحتية وموقعة خسائر بشرية كبرى.
لكن توقف القتال لم يُترجم على صعيد تكثيف وتيرة إدخال المساعدات، وهو أحد بنود اتفاق خفض التوتر الذي تم التوصل إليه برعاية روسيا وإيران، حليفتي النظام السوري، وتركيا الداعمة للمعارضة.
وأعلنت روسيا بعد سريان الاتفاق توزيع أكثر من عشرة آلاف طنّ من المساعدات الغذائيّة في الغوطة الشرقية. وقال المرصد السوري لحقوق الإنسان إن "عملية التوزيع تمت لمرتين على أحد الحواجز ثم توقفت إثر ذلك".
وقالت المتحدثة باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر في
سوريا إنجي صدقي لوكالة فرانس برس: "الحاجات الإنسانية في الغوطة الشرقية ضخمة، ويتوجب بذل المزيد من الجهود".
وشددت على أن "الوضع يزداد سوءاً"، مضيفة: "نعلم من خلال تجارب سابقة أنه يمكن للأوضاع أن تتدهور سريعاً وتصل إلى مراحل مأساوية حين يعتمد السكان على المساعدات الإنسانية لتلبية احتياجاتهم الأساسية".
أجسام هزيلة
وتعيش عائلات في الغوطة الشرقية مأساة حقيقية جراء ندرة المواد الغذائية الأساسية. وتوفي طفلان رضيعان يومي السبت والأحد جراء إصابتهما بسوء التغذية الحاد أو مضاعفاته بينهما سحر (34 يوما) التي التقط مصور متعاون مع فرانس برس صورا ومشاهد صادمة لها تصدرت وسائل الإعلام حول العالم عشية وفاتها قبل يومين.
وظهرت سحر ضفدع، وحيدة والديها، بجسد هزيل تبرز عظامه ووجه شاحب وبالكاد تقوى على التنفس أو حتى البكاء. ولم يبلغ وزنها كيلوغرامين قبل وفاتها في المستشفى في حمورية.
ويقول الدكتور يحيى أبو يحيى وهو مدير القسم الطبي في منظمة غير حكومية تشرف على المستشفى حيث توفيت سحر وعلى 11 مركزاً طبياً في المنطقة: "العناصر الغذائية الأساسية التي يجب أن تتوفر للأمهات المرضعات غير متوفرة".
ويوضح: "يعاني أغلبهن من فقر دم ونقص في فيتامين أ و د والزنك والحديد"، لافتاً إلى أن "أجسامهن ضعيفة وبالتالي أجسام الأطفال ستكون هزيلة وضعيفة".
وبحسب الطبيب، فإن سوء الوضع الصحي للأطفال ناجم أيضا عن الظروف المعيشية السيئة لناحية عدم توفر مياه الشرب والنقص في وسائل تعقيم المياه الجوفية. كما يُعرض انتقال العائلات من منزل إلى آخر وقلة النظافة، الأطفال للإصابة بحالات إسهال متكررة قد تكون لها عواقب صحية سيئة للغاية.
ووفق بيانات أفادت بها اليونيسف، يعاني 232 طفلا من سوء التغذية الحاد الشديد، وهو ما يتطلب تدخلاً طبياً عاجلاً لإبقاء الطفل على قيد الحياة. كما يعاني 828 طفلاً آخرين من سوء تغذية حاد متوسط.
داخل منزله المتواضع الذي تصدعت جدرانه وتحطم زجاج معظم نوافذه، يقول أبو عزام لفرانس برس: "جلّ ما أتمناه هو أن أرى أطفالي ممتلئي البطون".
ويضيف بحسرة: "أتمنى أن يمر علينا يوم نأكل فيه ثلاث وجبات".