هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
جثث بالعشرات ملقاة في أرض فلاة في ضواحي مدينة بنغازي، وهي المرة الخامسة التي يقع فيها مثل هذا النوع من القتل الجماعي على أيدي كتائب وأجهزة أمنية تنتسب لوزارة الداخلية والجيش التابع لبرلمان طبرق.
مشهد مرعب مذل محزن، لكن المدافعين عن الحقوق والحريات، وأنصار الديمقراطية والإعلاميين والنشطاء السياسيين، خاصة من قارعوا الاستبداد والدكتاتورية لعشرات السنين، صامتون أو يلجؤون إلى تمييع الحادثة الجلل، متجردين من كل القيم بل تجردوا من إنسانيتهم.
لقد كانت الدنيا تقوم ولا تقعد عند وقوع حادثة اغتيال في بنغازي، قبيل إطلاق عملية الكرامة، وحق لمن أقامها ولم يقعدها ذلك، فقد كان كابوس الاغتيالات مخيف وتداعياته مزلزلة.
فما بال الجمود هو سيد الموقف اليوم، وقد استحر القتل وتوحشت الاغتيالات، وصارت الجثث ترمى فرادى وجماعات في مكبات القمامة والمناطق النائية؟؟!!
إن أردت أن تبحث في أسباب الازدواجية المقيتة ودوافع الاختلال في موازين النخبة السياسية والاجتماعية والإعلاميين والكتَّاب، وبالذات من يسوؤهم حتى "قتل ذبابة" في طرابلس ومدن الغرب الليبي ويجعلون منها مادة مهمة في تدويناتهم ومقالاتهم وتقاريرهم الصحفية، فإنك لن تجد إلا أحد سببين لا ثالث لهما:
التجرد من القيم الإنسانية وإخضاع الحكم على الجرائم للنزوع السياسي، فإذا كانت حادثة الاغتيال تجدي في توظيفها ضد الخصم علا الصراخ وارتفع العويل.
أما إذا كان المغدور خصما أو الحادثة في غير صالح السند السياسي والرديف الجهوي أو الأيديولوجي، كان الصمت أو التأويل التبريري هو خيار القوم.
إنهم ينكرون هذه الجرائم وتلك الممارسات البشعة، لكنهم يخافون من إدانتها، ويتوقعون أنهم سيكونون هدفا للمتورطين في هذه الأعمال التي لا يمكن أن تكون عمل مجموعات صغيرة، بل قتل ممنهج ترعاه مستويات أمنية عليا.
النتيجة بالنظر إلى السببين السابقين هي أن النخبة خاصة تلك التي كانت نشطة في تصديها لخروقات النظام السابق تتورط فيما تورطت فيه تلك التي دعمت النظام. واعتبرتها النخبة المعارضة شريك في جرائمه.
أو أنها تقع فيما وقعت فيه النخبة التي صمتت في الزمن الغابر، وكانت تعتبرها النخبة المعارضة فئة مهزومة ترضى بالذل وتسكت عن الظلم والانتهاكات الفظيعة.
قرأت على صفحات التواصل الاجتماعي كلاما لبعضهم يلمح إلى أن المغدورين دواعش، وربما يضمر هؤلاء أن قتلهم ثم رمي جثثهم بهذا الشكل المهين مبرر.
وأجزم أن جُل أو كثير ممن صمتوا عن إدانة هذه الجرائم الخطيرة إنما يستجيبون لهاتف في داخلهم يحكم أن ما وقع من جرائم له دوافعه المقبولة.
أقول ردا على هذا بأنه لا يمكن بأي حال تبرير القتل خارج القانون مهما كانت التهم أو الأفعال التي ارتكبها المغدور بهم، وأن السبيل السوي هو إخضاعهم لمحاكمة عادلة وإنزال القصاص العادل بحقهم بموجب حكم قضائي.
وإلا فإن البديل هو حكم الغاب الذي يكرس الفوضى ويشرعن إجرام وإرهاب الدولة أو جهات تمنحها الدولة شرعية، ويكرس العنف والكراهية، فالعنف والإجرام والإرهاب تولد عنفا وإجراما وإرهابا مضادا، ما يعني استمرار موجات الصراع في بنغازي وانزلاق المدينة في نفق مظلم.
أقول للمعنيين بهذا الملف الخطير من مسؤولين ونشطاء حقوقيين وسياسيين وإعلاميين، لقد صبر من تتهمونهم بالإرهاب سنوات على كبار أعوان النظام السابق، من خلال منحهم حق التقاضي في محاكمة طويلة توافرت فيها العديد من ضمانات المحاكمة العادلة.
فهناك محامون يدافعون عن المتهمين، وهناك نقل لجلسات المحاكمة على القناة الرسمية، ويعطى للمتهمين فرص كافية للدفاع عن أنفسهم.
واستمعنا لخطب مطولة وجريئة لبعض قيادات سياسية وأمنية دون أن يلحقهم أذى.
فهل صار الجيش والأجهزة الأمنية أكثر إرهابا من "الإرهابيين"؟!
هل أصبح قيادات الجماعة الإسلامية المقاتلة الذين كان بعضهم يدير ملف رجال النظام السابق أكثر مدنية وإنسانية من قادة الجيش ورؤساء الأجهزة الأمنية في المنطقة الشرقية؟!
الجرائم الوحشية التي تقع بين الفينة والفينة في بنغازي وضواحيها ترسل رسائل واضحة حول الإرهاب والإرهابيين بشكل يميع مفهومه ويجعل منه مجرد ورقة سياسية يتم التلاعب بها حسب مصالح البعض.
وهذه هي الطامة التي يصمت عنها كثير ممن كنا نثق في فكرهم ومواقفهم ونحترم سبقهم النضالي.
وأختم بالقول إن الجرائم تقع في شتى بقاع البلاد يظل المتورطون فيها كتائب أو مجموعات مسلحة الكثير منها خارجة عن القانون، وما يقع في الغرب والجنوب من قتل غالبا يقع بسبب مواجهات بين أطراف متنازعة يقتل بعضها بعضا.
لكن جرائم بنغازي وضواحيها تقع في السجون ومراكز التوقيف وتحت سمع ونظر الجيش بل يتورط فيها أجهزة وكتائب تتبعه وتتلقى الأوامر منه.
وهذا عامل في التفريق من الغباء تجاهله، خصوصا وأن دعوة مناصرة الجيش وتسليم زمام السلطة له تتأسس على دوره في فرض الأمن ومواجهة الاغتيالات والقتل خارج القانون، أليس هو هذا دافع إطلاق عملية الكرامة وتشكيل الجيش؟!