إن معظم
التفاعلات الأخيرة التي تعرفها المنطقة العربية اليوم، من اليمن مرورا بسوريا ومصر
وصولا إلى أزمة الخليج، إنما تندرج في إطار ردود فعل
الثورة المضادة على ما أفرزه
الربيع العربي من واقع جديد. شهد النظام الرسمي العربي رجة كبيرة في أهم أعمدته،
وخاصة في مصر، لكنه سرعان ما استطاع اكتساح الموجة الثورية الأولى وإجهاض مخرجاتها؛
بأن أعاد إلى سطح المشهد كل رموز الدولة العميقة وكل مكونات النظام القديم.
النظام
الرسمي العربي عاد بقوة وعنف ودموية قاسية، وليس المشهد السوري إلا دليلا ناصعا
على حدود التوحش التي يمكن للدولة العربية القمعية أن تبلغها إن هي أحست بتهديد
وجودي. هذه العودة الدامية تظهر بوضوح كذلك في المشهد المصري، حيث يمنع النظام
الانقلابي هناك كل أشكال الخروج عن النسق، فلا معارضة موجودة، ولا إعلام ولا أي
شكل من أشكال الاختلاف مع الأطروحة القائمة ومع الخطاب الرسمي لنظام الانقلاب. يسعى
النظام المصري والقوى التابعة له إلى إعادة الوضع السابق للثورة، مع إضافة الوعي
بإمكانية الثورة، أي أن السلطة في مصر تسعى إلى استنساخ الوضع القديم؛ مع الاحتياط
الكبير من اندلاع حالة مشابهة لحالة ثورة يناير وضرورة منع قيامها.
لا يتأتى
منع شروط الثورة من جديد إلا بمنع ظهور المحرك الأساسي للتغيير الاجتماعي، وهي قيم
التغيير التي تحرك الجماهير، وتدفع بها نحو الساحات والشوارع. فالحرية والعدالة
الاجتماعية والكرامة ورفض الظلم والطغيان؛ هي القيم التي تأسست عليها كل حركات
التغيير الاجتماعي الجماهيرية والثورات عبر التاريخ. فسواء كانت الثورات خاضعة
لمبدأ اقتصادي أو اجتماعي أو غيرهما، فإنها تحتكم دائما إلى شرط القيمة التي تتجلى
عادة في الشعارات المصاحبة لموجة التغيير الاجتماعي.
هذه القيم
الجديدة هي العدو الأول للنظام الاستبدادي العربي ولمنظومة القيم التي تأسس عليها.
فالحرية نقيض الاستبداد، والكرامة نقيض التعسف، والقمع والعدالة الاجتماعية نقيض
الفساد والظلم و الاحتقار.
تتحدد قيم
كل نظام سياسي حسب طبيعة الحكم. فإذا كان الحكم عادلا وديمقراطيا، فإنه يتأسس على قيم
الحرية والعدالة الاجتماعية وحقوق الفرد الأساسية وعلوية القانون واحترام الآخر وغيرها
من القيم التي لا يستطيع النظام السياسي العادل القيام بدونها. أما إذا كان النظام السياسي
شموليا، فإنه يتأسس على قيم معاكسة للمنظومة السابقة، كقيم الاستبداد والتمييز الاجتماعي
وسيادة قانون القوي ورفض الآخر، وهي منظومة تسري عبر مؤسسات الدولة وخطابها الرسمي،
بدءا بنص الدستور أو عبر منظومة القوانين التي تنظم العلاقات بين الأفراد، وكذلك بينهم
وبين الدولة ومؤسساتها.
لكن وراء المنظومة
الرسمية للقيم توجد المنظومة غير الرسمية التي تعتبر البنية الحقيقية للقيم الاجتماعية،
وهي تظهر في التعبيرات الثقافية التي تفرضها الدولة ومؤسستها، كالخطاب الديني الرسمي
والنمط التعليمي ونسق الفنون والتربية الاجتماعية، وغيرها من المجالات.
ما حدث
خلال الربيع العربي والثورات المضادة التي أعقبته؛ هو وعي النظام الرسمي العربي
بأن منظومة القيم التي يتأسس عليها لا يمكن أن يعاد إنتاجها بنفس الطريقة والنسق
الذي كانت تنتج به سابقا، بسبب تغير السياق وتغير الظروف الاجتماعية والسياسية
العامة. لذا عمدت أبواق الدولة العميقة إلى الاستثمار في الزخم الثوري بتبني
شعارات التغيير، وهو ما دفع الانقلاب المصري - مثلا - إلى تبني شعارات ثورية بأن
وصف انقلابه على الشرعية بالثورة الجديدة.
يبشر
النظام العربي دائما بقيم التغيير والإصلاح ومحاربة الفساد والتنمية والرفاه
والأمن والاستقرار... لكنه لا يحقق منها في الغالب شيئا، بل يدعم تفرده بالسلطة
وهيمنته على مفاصل الدولة من أجل مزيد النهب والسطو والاستبداد. ولا يتأتى
للمنظومة السياسية العربية الهيمنة على المجتمع إلا بمحاربة الأنساق الأخلاقية
والسلوكية التي يمكنها أن تقوض الأسس التي تأسس عليها تصورها للمجتمع والدولة. وبذلك
يتراوح الخطاب السياسي الرسمي العربي بين الإيهام بقيم الحرية والتغيير وبين
ممارسة نقيضها على أرض الواقع، شرط أن تدعمه في ذلك كتائب إعلامية وجحافل من
المثقفين والمتنفعين والمتسلقين من خدم السلطان ومن حاشيته المقربة.
بل إن
الأمر تطور اليوم مع الوعي الجماهيري السريع بزيف الخطاب الاستبدادي؛ إلى محاولة
تقديم أولويات اجتماعية تسمح في نفس الوقت بتعطيل القيم الثورية المنشودة، كما
تسمح بتركيز دعائم الاستبداد وإطلاقه يده في المجتمع. لقد استثمر النظام القمعي
العربي في الحرب الأمريكية على الإرهاب؛ بما هي غطاء دولي لإعادة استعمار الشعوب
وقمعها وسلب ثرواتها والهيمنة عليها. تقدم اليوم مطلب الأمن على كل المطالب الأخرى،
وصارت الحرب على الإرهاب حربا مقدسة لا صوتا يعلو فوقها، بل إنها صارت اليوم قيمة
في حدّ ذاتها فرضتها القوى الاستعمارية العظمى فرضا على وكلائها في المنطقة
العربية.
ليست
الحرب على الإرهاب في الحقيقة إلا حربا على قيم الحرية والكرامة والعدالة
الاجتماعية التي نادى بها الإسلام (وكل الديانات السماوية)؛ بما هو مصدر الموروث
الحضاري والعقائدي للأمة العربية. فالحرب اليوم هي في الحقيقة حرب بين قيم الحرية
من ناحية، وقيم العبودية الجديدة من ناحية ثانية، ولن يكون النصر فيها إلا لقيمة
الحرية؛ لأن قيم الاستبداد مهما نجحت في الصمود وفي التجدد، فإنها تنتهي دوما
بالانكسار؛ لأنها تحمل بذور فنائها في داخلها، بما هي قيم منافية للفطرة البشرية
التي هي حرية أولا تكون.