تثار منذ فترة ليست بالبعيدة، وخصوصا بعد مشهد الانقلاب العسكري في مصر عام 2013، العديد من الأحاديث والدعوات التي تطالب جماعة
الإخوان المسلمين بالقيام بما أطلق عليه المراجعات.
في البداية كان حديث المراجعات يتركز على قضية أن الجماعة يجب أن تعتمد منهج الثورة وليس الإصلاح، وأن الإصلاح لم يعد يناسب الوقت والزمن الذي نعيشه، وأن الأمة الإسلامية لم تعد تحتاج إلى هذا المنهج الذي تنادي به الجماعة وتعتمده، وأن دور الجماعة سينتهي إذا لم تقم بهذه الخطوة.
وقد تشعب الكلام في هذه القضية، حتى بلغ الحديث أسلوب التغيير وهل الأسلوب السلمي الذي تتبعه الجماعة ومنهجها في التغيير يجب أن يتغير ويتم تعديله أم لا. بالطبع كان هناك من يدفع في أن تقوم الجماعة بعمل تغيير في أسلوب عملها ومنهجها في التغيير، ولكن بفضل الله سبحانه وتعالى، وببركة من ضحى واستشهد في سبيل الله على طريق هذه
الدعوة المباركة، استطاعت الجماعة أن تتجنب المنزلق وتتجاوز هذا المنعطف.
ثم سرعان ما انتقل حديث المراجعات بعد ذلك إلى قضية أخرى، وهي قضية الدعوي والسياسي، وأنه يجب الفصل بينهما، وتم تقديم نماذج لمن اتبع الفصل بين الدعوى والسياسي ومن لم يتبع هذا الفصل، وكيف أن من اتبع الفصل وقام به قد حقق نجاحات واستطاع أن يفلت مما تعارف عليه بهجمة الثورات المضادة، في حين أن من لم يقم بذلك الفصل قد آلت تجربته في الحكم إلى الفشل.
وبالطبع، كان من يروج لهذا الفصل يؤيد نهجه بالادعاء بأن الدولة المعاصرة وطبيعتها ومقوماتها لا تستقيم مع منهجية جماعة الإخوان في أن الإسلام دين ودولة، وكما يقول الأستاذ البنا في رسالة المؤتمر الخامس: "نحن نعتقد أن أحكام الإسلام وتعاليمه شاملة تنتظم شؤون الناس في الدنيا والآخرة... فالإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، ودين ودولة، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف"... إعمالا لفهم الجماعة الشامل لطبيعة الإسلام، ومن ثم أصبحت دعوة الإخوان دعوة سلفية وطريقة سنية وحقيقة صوفية وهيئة سياسية وجماعة رياضية ورابطة علمية ثقافية وشركة اقتصادية وفكرة اجتماعية، متميزة بهذا الفهم الشامل عن غيرها من الدعوات والجماعات الإسلامية الأخرى.
ونظرا لأن حديث المراجعات وضرورة التجديد ما زال مستمرا، وكان آخره ما جرى في احتفالية الجماعة بمرور 90 عاما على تأسيسها متبنيا قضايا تتبدل وتتعدد. ويختفي الحديث عن المراجعات لفترة ثم يعود للظهور بعد ذلك بقضية أخرى وموضوع جديد؛ يزيد من إثارة البلبلة وزيادة الخلافات واتساع الهوة بين الأشقاء، مثل قضية تغيير القيادات أو قضية الشباب ودورهم، وغير ذلك من قضايا.
وقبل أن ننتقل للإجابة على التساؤل المطروح، فإنني هنا أتوقف قليلا مع مصطلح المراجعات نفسه، وتعريفه هو إعادة تقييم جذرية لنظرية أو عقيدة. وكما تعارف الكثير من المفكرين، فإن عملية المراجعة للحركات الإسلامية تكون بمناقشة أفكارها ومنهجيتها، وأكثرها شهره كانت مراجعات الجماعة الإسلامية خلال التسعينيات من القرن الماضي، والتي توصلت فيها لنبذ العنف، مع أن منهجها الأساسي الذي قامت عليه هو استخدام القوة في مواجهة الدولة لتحقيق التغيير الذي يريدونه.
لذلك، فإن قضيتي أسلوب التغيير عند الإخوان والتحول من الإصلاح إلى الثورة، والبعد عن الفكرة الشاملة للإسلام إلى الفكرة الجزئية والفصل بين الدعوي والسياسي؛ هما تعبير حقيقي لحديث المراجعات، أما ما عدا ذلك فلا يرتقي لمستوى المراجعات.
وهنا يأتي مجال الإجابة على التساؤل المطروح، وهو هل تحتاج جماعة الإخوان إلى إجراء مراجعة لفكرها ومنهجها، أو إجراء تقييم جذري لهذه الفكرة أو المنهج الذي قامت عليه الحركة والجماعة منذ تسعين عاما وحتى الآن؟
ومن وجهة نظري وفي تقديري؛ أن منهج الجماعة وفكرتها لا تحتاج إلى مراجعة بالتعريف الذي تم تقديمه. وهذا لا يعني على الإطلاق أن الإخوان فقط هم الإسلام، وما عدا ذلك فهو خارج عن الدين.. فالإسلام أكبر من الإخوان وحركتهم. وقد أكد على هذا المعنى الأستاذ البنا في ركن الفهم، واستمر التأكيد عليه في المراحل التي تلت بعد وفاة الإمام المؤسس، وخاصة في مواجهة انتشار فكرة التكفير في الستينيات من القرن الماضي، وكيف واجهها وعالجها الأستاذ الهضيبي من خلال كتاب "دعاة لا قضاة" الذي يحدد منهج الجماعة في مثل هذه القضايا، ثم ما حدث خلال الثمانينيات عندما ظهرت بعض الكتابات التي تتحدث عن أن جماعة الإخوان هي جماعة المسلمين، فتصدى لهذا الفهم المرحومان الأستاذ عمر التلمساني والأستاذ مصطفى مشهور (رحم الله الجميع وحشرنا معهم مع الأنبياء والصديقين والشهداء)، مؤكدين من خلال سلسلة من الكتابات في هذا الموضوع الفهم المستقر في فكر الجماعة منذ الإمام المؤسس؛ على أن الجماعة هي إحدى الجماعات العاملة للإسلام؛ من خلال فكرتها الأساسية حول شمولية الإسلام، وأنه حبل النجاة يوم الحشر ومن خلال منهج الإصلاح والتدرج بدأ بالفرد فالأسرة فالمجتمع... حتى أستاذية العالم وعالمية الدعوة. ولا غضاضة على الإطلاق في أن يرى أحد أو مجموعة من المسلمين فكرة أخرى ومنهجا مختلفا ويسعى لتحقيقهما، وهنا يكون شعارنا كلمات الشيخ رشيد رضا "نتعاون في ما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه".
إن فكرة ومنهج جماعة الإخوان المسلمين هو ما كتبه الأستاذ البنا في رسائله المختلفة بداية من "دعوتنا" وحتى "رسالة نظام الأسر"، مرورا بـ"رسالة التعاليم" و"إلى أي شيء ندعو الناس" و"رسالة المؤتمر الخامس"، وغيرها من رسائل كتبها ونشرها رحمه الله. ومن خلال قراءة متأنية لهذه الرسائل، نجد أن الأستاذ البنا حدد الفكرة وطبيعتها بشكل مفصل وواضح، وكذلك الهدف منها وإلى أين تصل بمن ينتمي لهذه الدعوة إذا التزم بهذه الفكرة، كما أنه أوضح منذ البداية التبعات والتحديات التي يمكن أن يواجهها من ينتمي إليها ويلتزم بها. وفي هذه الرسائل، أوضح الأستاذ البنا المنهج الذي يراه واختاره من أجل الوصول للأهداف المرجوة من تأسيس الحركة. وفي تقديري، أن نجاح حركة الإخوان واستمرارها حتى الآن (مع كثرة المعاول التي تحاول هدمها)، جعلها رقما على المستوى العالمي يصعب تجاوزه.. والسبب في ذلك أن اختيار الأستاذ البنا للفكرة والمنهج الذي بنى عليهما الجماعة، كما أتصور أنه نفس المنهج الذي اتبعه الرسول محمد عليه أفضل الصلاة والسلام والفكرة نابعة من رسالة السماء إلى الأرض، والتي حملها وبلغها كافة الأنبياء والرسل على مدى العصور.
بعد الإجابة على السؤال الأول، قد يثير البعض تساؤلا آخر مفاده أنه إذا كان منهج وفكرة جماعة الإخوان لا يحتاجان إلى مراجعة، فهل هذا يعني أن الإخوان لا يخطئون؟ بالتأكيد لا... فهم يصيبون ويخطئون كباقي البشر، وإذا كان الأنبياء في جانبهم البشري يصيبون ويخطئون، كما علمنا المولى عز وجل وتم ذكره في القرآن الكريم في العديد من السور والآيات وعلى مدار التاريخ، فكيف نتوقع من بشر غير معصومين أنهم لا يخطئون؟ فكما قال الرسول الكريم: "كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون". وإذا كان الخطأ في الأداء وارد، فإن المهم هو الاجتهاد لعدم تكراره.
ويساعد على تجنب التكرار القيام بواجب النصيحة لهم؛ لأنه كما ورد عن الرسول عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم الدين النصيحة: "قلنا لمن؟ قال لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، ولكن النصيحة لها آداب وقواعد وشروط، وقد تناولت هذا المعنى من قبل.
وقد يقول قائل إنه قدم النصح ولم يستجاب له، فهذا يكفيه أخذ ثواب اتباع السنه، ولكن أن يخرج ليقدم النصيحة علنا وتأخذ جانب التشهير، فهذا ما لا يجوز، بل يحرم صاحبه من حصد الثواب المرجو، بالإضافة إلى أن هذا التصرف يغلق قلب المنصوح تجاه النصيحة المقدمة.
بالطبع، فكرة ومنهج جماعة الإخوان يستحقان الكثير والكثير من الصفحات لشرحهما وإبراز التزامهما بالمنهج النبوي الشريف. وقد أستطرد قليلا هنا للتدليل على ذلك بشكل سريع، فمثلا: هل كان الرسول عليه الصلاة والسلام لا يستطيع استخدام أسلوب الثورة ومنهج التغيير السريع (وكانت هناك تجارب سابقة في التاريخ الروماني وغيره لهذا المنهج) خلال بدايات الدعوة في مكة؟ بالطبع كان يستطيع، فكل مقومات تثوير الأفراد في ذلك الوقت كانت متوفرة، مثل اشتداد الظلم والاستعباد، وبالتالي استبداد حكام مكة وأشرافها في مصائر المقيمين فيها. وكان الاستعباد حقيقة واقعة، وليست مجازية كما نعيشه الآن. ومع ذلك، كان يصبّر أتباعه ويطمئنهم بأن المستقبل لهم ولهذا الدين، بالرغم مما يعانونه من ظلم واضطهاد. بالطبع، هناك أمثلة أخرى كثيرة تدلل على أن منهج جماعة الإخوان وفكرتها الأساسية هما الأنسب والأكثر ملائمة لتحقيق التغيير بالنسبة للبشرية جمعاء؛ لأن الدين الإسلامي هو الدين الخاتم، ولن تأتي رسالة أخرى من السماء حتى يرث الله الأرض وما عليها. ولأن الله سبحانه وتعالى هو العادل، فمن العدل أن يكون قد قدم لنا أفضل الطرق التي توصلنا إلى النجاح في الدنيا والفوز بالجنة والنجاة من النار بإذن الله تعالى.
لذلك، فإنني أدعو كل من يحب وينتمي لهذه الدعوة المباركة أن يكون واثقا في فكرته وفي منهجه، وعليه ألا يلتفت إلى من يعوي حوله أو غير ذلك. والمهم الآن هو العمل بمراحله المختلفة، وبالتالي يمكن القول إن جماعة الإخوان لا تحتاج إلى مراجعات كما يدعي البعض، بل هي في تقديري تحتاج إلى برامج عملية واضحه المعالم تعد جيدا وتلائم المرحلة، وتكون خطوه على طريق المشروع الكلي للجماعة لعالمية الدعوة وأستاذية العالم (وهذا قد يكون مجال مقال آخر)، وتتبناه الجماعة ويشارك ويعمل فيها الجميع ممن ينتمي لهذا الدين العظيم ولدعوة الإخوان المسلمين وتربي على فكرها الأصيل ومنهجها المتميز، وبالتالي نبتعد عن الفرقة والاختلاف فيما بين أبناء الصف الواحد. ويتم تطبيق الركن التاسع في بيعة الإخوان كما رتبها الأستاذ البنا، وهو ركن الأخوة، وهذا الركن ينبع من عنصرين أساسيين، أولهما حب الخير للناس؛ لأن الرسول الكريم بُعث رحمة للعالمين، وكذلك عنصر التعاون مع البشر لتحقيق هذا الخير، فما بالنا بمن يقف معنا في نفس الخندق؟ ولنكن على يقين بأن كلهم أتيه يوم القيامة فردا.
والله المستعان وهو من وراء القصد وهو يهدي السبيل.