أن يأتي الاعتذار متأخرا خير من ألا يأتي أبدا، لكن هناك فرقا كبيرا أن يأتي الاعتذار من شخص أو مؤسسة بعد أن تكتشف ما ارتكبته من خطأ، وأن يكون هذا الاعتذار مدفوعا بحكم قضائي يلزم هذا الكيان أو الشخص بتقديم الاعتذار، وهو ما حدث من مؤسستين بريطانيتين كبيرتين؛ إحداهما هي صحيفة الديلي تلغراف الشهيرة والثانية هي الحكومة البريطانية.
الاعتذار الأول جاء بعد نحو سنتين من التقاضي، حيث اضطرت الديلي تلغراف لأن تعتذر لمحمد كزبر، مدير عام مسجد "فنزبري بارك" الواقع في شمال لندن، ونائب رئيس الرابطة الاسلامية في
بريطانيا، وذلك إثر مقال يهاجم كزبر ورئيس حزب العمال جيرمي كوربن، ويزعم أنهما يلقيان باللوم على بريطانيا في تأسيس تنظيم داعش، بالإضافة لاتهامات أخرى لنائب رئيس الرابطة الإسلامية في بريطانيا تشير إلى أنه دعا لتدمير إسرائيل.
الحكم القضائي لصالح كزبر شمل أيضا تعويضا ماليا قدره 30 ألف جنيه إسترليني عن الأضرار التي لحقت به جراء هذا التشهير، بالإضافة لسحب المقال من الموقع الإلكتروني للصحيفة.
أعتقد أن هذه الصحيفة ستفكر ألف مرة مستقبلا في نشر مثل هذه المواد التشهيرية بالشخصيات العامة المسلمة، خاصة وأنها لم تأتِ في سياق تحقيق صحفي أو خبر به معلومات، وإنما في مقال رأي. وكان يمكن للصحيفة أن توفر هذا المبلغ وهذه الضجة لو أنها تداركت الأمر بعد نشر المقال، لكن للأسف كثير من قضايا
المسلمين أصبحت كلأ مباح لكثير من وسائل
الإعلام ذات التوجهات اليمينية، الأمر الذي جعل عديدا من وسائل الإعلام تبدي استهتارا لافتا فيما تنشره عن مثل هذه القضايا.
أما الاعتذار الثاني فكان من الحكومة البريطانية نفسها، ممثلة في رئيسة الوزراء تيريزا ماي، التي أعلنت اعتذار حكومتها بلا تحفظ عن تصرفات بريطانيا بحق الناشط السياسي الليبي عبد الحكيم بلحاج، والتي ساهمت في اعتقاله مع زوجته حين كان عضوا في الجماعة الإسلامية المقاتلة، وتسليمهما إلى سجون نظام القذافي في آذار/ مارس 2004 حيث تعرضا للتعذيب. هذا الاعتذار له أهمية كبيرة؛ إذ أنه ينطوي على اعتراف بارتكاب أجهزة الاستخبارات البريطانية مثل هذه الأفعال المشينة، وهي اختطاف شخص وزوجته في دولة أجنبية، هي تايلاند، وإيداعهما أحد السجون الأمريكية قبل تسليمهما لليبيا القذافي لاحقا.
هذه الاعتذارات هي بلا شك خطوة مهمة على طريق تحديد المسؤولين عن كثير من الانتهاكات المادية والمعنوية التي يتعرض لها كثير من المسلمين، لكنها لم تكن منّة من هذه المؤسسة أو تلك الحكومة، إذ أنها كانت ثمرة نضال قانوني وإعلامي طويل امتد لسنوات، وبالتالي فهي ليست اعتذارات مجانية، وإنما اعتذارات تحت سيف القانون والقضاء. ومن المهم الآن الالتفات لما بعد الاعتذار، فهناك قطعا مواد نشرت في الديلي تلغراف وغيرها تسيء للإسلام والمسلمين لم يكن لأصحابها الإمكانات المالية أو الإدارية لمقاضاة الصحيفة، وهناك أدوار للاستخبارات البريطانية عليها علامات استفهام. وكي يكون للاعتذار قيمة، ينبغي أن يتمخض عن تغيير في السياسات لهذه المؤسسات. وهذا التغيير لن يأتي بين عشية وضحاها، ولكن يحدث عبر تراكم مثل هذه الخطوات وتوظيفها سياسيا وإعلاميا.
ليس صحيحا أن الغرب يتآمر على الإسلام والمسلمين في المجمل، ولكن هناك جهات غربية بالفعل تستثمر في إيجاد مناخ عدائي للإسلام والمسلمين، وتريد أن تفصل إسلام على مقاسها. هذه الجهات هي التي ينبغي التصدي لها عبر هذا النوع من النضال المدني. ومثل هذه القضايا ليست طائفية تخص مصالح المسلمين وحدهم، ولكنها قضايا إنسانية بشكل رئيسي تطال فئات مجتمعية أخرى مثل السود، وهذا نقاش آخر.