قال الكاتب الإسرائيلي في صحيفة هآرتس يزهار بار إن "السياسة الإسرائيلية حولت قطاع
غزة إلى جزيرة من الفقر واليأس، بحيث أصبحت بنظر بعض الإسرائيليين مشكلة غير قابلة للحل، رغم أن هناك أملا بإنجاح
الخطط الجارية لتنظيم العلاقة بين إسرائيل وجارتها الجنوبية الصغيرة".
وقد أجرى الكاتب في تحقيقه المطول الذي ترجمته "عربي21"، سلسلة لقاءات مع عدد من الحكام العسكريين الإسرائيليين السابقين لقطاع غزة في سنوات ماضية للتعرف منهم على رؤيتهم المستقبلية للعلاقة معها، ومدى نجاح ما يتم الترتيب له بشأن الأوضاع السيئة فيها.
قنبلة ديموغرافية
وأضاف أن "مرور 51 عاما على احتلال قطاع غزة عام 1967، وبعد 13 عاما على
الانسحاب الإسرائيلي منها ضمن خطة الانفصال أحادي الجانب عام 2005، وبعد عشر سنوات من سيطرة حماس على القطاع في 2007، ما زالت إسرائيل تسيطر على العديد من مرافق حياة الغزيين: المياه الجوفية، المجالات الجوية والمعابر البرية، إدخال الأغذية والطعام، وترى فيها مكانا بدون مستقبل، ولا يستطيع القيام بصورة مستقلة، وتعتبرها قنبلة ديموغرافية وأمنية وسياسية، وفي الوقت ذاته فإن إسرائيل ليست مستعدة حتى اللحظة للخروج برؤية استراتيجية لإدارة غزة".
وقال عدد من كبار الجنرالات الإسرائيليين الذين يعرفون غزة عن قرب أن السنوات الماضية شهدت فرصا عديدة لترتيب العلاقة مع غزة، لكنها ضاعت.
الجنرال يتسحاق فونداك الذي حكم قطاع غزة وشمال سيناء أوائل سنوات السبعينات قال إن "رؤية مشاهد الفقر للاجئين
الفلسطينيين في القطاع يعني أن التوصل لحل مع هذه البقعة الجغرافية يبدأ من المسار الاقتصادي، وإيجاد مصادر دخل، لأن الاكتفاء بملاحقة الجماعات المسلحة وحدها، كما زعم قائد المنطقة الجنوبية آنذاك الجنرال أريئيل شارون، لن يحل مشكلة غزة".
ويستذكر الجنرال كلمة لحيدر عبد الشافي القيادي الفلسطيني حين "حذره من استمرار احتلال إسرائيل للقطاع قائلا: "إن بقي الوضع هكذا، فإننا سننتصر عليكم في فراش الزوجية"، وأضاف: "لقد صدق في ذلك حيث كان عدد سكان القطاع في السبعينيات 400 ألفا، واليوم أصبحوا مليونين".
ويضيف أن "الكارثة التي حصلت لإسرائيل تمثلت في انتصارها خلال حرب 1967، حيث تكون لديها حالة من النشوة والتعالي جعلها ترفض الخيار الأردني للأراضي الفلسطينية، مع أنه خلال حرب أكتوبر 1973 لم تطلق غزة رصاصة واحدة، لأنها تزامنت مع جهود لترميم أوضاع اللاجئين، وبلغ عدد الغزيين المسافرين يوميا إلى تل أبيب قرابة ثمانين ألفا، غدواً ورواحاً، كما توفرت مائتي حافلة لنقل العمال الفلسطينيين إلى إسرائيل، لكننا أضعنا هذه الفرصة التاريخية بصورة مذهلة، ثم جاءت خطة الانفصال بقيادة شارون، بخطوة أحادية الجانب، دون أن يتفاوض مع الفلسطينيين، وأغلق كل الطرق أمام أي ترتيب سياسي مستقبلي".
نشوء حماس
يتسحاق إيني عابادي حاكم غزة في سنوات السبعينات بتكليف من وزير الحرب الأسبق موشيه ديان، قال إنه "بعد حرب الأيام الستة في 1967 أجرت إسرائيل عدة محاولات فاشلة لتغيير صفة اللاجئين الفلسطينيين ، بتهجيرهم خارج قطاع غزة، أحدها بإشراف رئيس الحكومة ليفي أشكول، وأخرى من خلال إجراء تغييرات في طريقة بناء وتوزيع مخيمات اللاجئين في القطاع".
وأضاف أنه "نجح في أغسطس 1972 بتسوية أوضاع 38 ألف لاجئ من مخيمي جباليا والشاطئ، وعرض أمامهم ثلاثة خيارات: السكن من جديد في مناطق مخلاة في القطاع، الانتقال للضفة الغربية، العودة لإسرائيل، 72 من العائلات طلبت الانتقال لأقاربهم بالضفة، الباقون طلبوا ترميم أوضاعهم في غزة، ولم يختر أحد البديل الثالث".
ويستدرك قائلا إن "شارون حضر مع لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست إلى غزة للاستماع للخطة، وقال أمامها: "أي محاولة لإخراج اللاجئين من مخيماتهم هو عمل حقير، ورغم رفض الحكومة لإقرار خطة ترميم المخيمات، لكني مقتنع أنه لو تم المضي قدما في الخطة، فإن أوضاع الفلسطينيين كانت ستتحسن، وستظهر بيارات غزة وحقولها أفضل كثيرا من المخيمات".
عابادي الذي عاصر نشوء المجمع الإسلامي معقل حماس التأسيسي، قال إن "إسرائيل لو عملت على تحسين ظروف الغزيين، فلم تكن تتوفر ظروف لنشأة حماس وظهورها، لأن الإخوان المسلمين يظهرون وينتشرون في واقع المعاناة التي يعيشها الناس، وصحيح أن الفلسطينيين لم ينسوا أبدا فكرة القضاء على إسرائيل".
وأكد أنه "مع حماس كان بالإمكان أيضاً التوصل لحلول وترتيبات، من خلال إتاحة المجال للفلسطينيين لأن يعيشوا بصورة طبيعية، لأنهم باتوا مثل القط الذي يحشر في الزاوية، ولم يعد له مكان يذهب إليه، فما كان منهم إلا الانقضاض على الإسرائيليين، لأنه لم يعد لديهم ما يخسرونه، وحينها خسرت إسرائيل المعركة".
يتسخاق سيغف حاكم غزة أوائل الثمانينات كشف أنه "قدم للمستوى السياسي الإسرائيلي خطة للانسحاب العاجل من قطاع غزة، قبل جيل كامل من تفكير شارون في ذلك، لكنني اضطرت للتقاعد من الجيش بسبب دعوتي هذه، وقد تنبأت بحصول انهيار في أعقاب التدهور الاقتصادي في القطاع، وتحدثت بقلق عن سيناريو يتمثل بهجوم الغزيين على الجدار".
ويضيف: "حين كنت ملحقا عسكريا في السفارة الإسرائيلية في إيران، توافد الملايين عقب عودة الخميني لطهران، وحين أصبحت حاكما لغزة توقعت أن يتكرر الشيء ذاته، صحيح أن لإسرائيل قوة عسكرية، وقادرة على إطلاق النار، لكن سيكون صعبا القيام بذلك ضد الأولاد الصغار، ولذلك كان يفترض بدل العمل بصيغة حزب الليكود وعنوانها "قبضة قاسية، وقبضة أشد قسوة"، أن يتم التفكير إيجاد حلول للمشكلة الإنسانية".
اقتحام الحدود
ويرى سيغف أن "هناك إمكانية للإتيان بحلول لغزة من بين أعمدة الدخان السوداء الناجمة عن إشعال إطارات السيارات ضمن المسيرات على حدود القطاع، وفي حال فكرت إسرائيل بالتنسيق مع الدول العربية المعتدلة فيمكن إحداث تغيير في مصير قطاع غزة، فمصر بإمكانها إدخال الوقود والكهرباء والأطعمة بأسعار لا تساوي 10% من نظيرتها الإسرائيلية، والمحافظة على وضع اقتصادي غزي شبيه بمصر، صحيح أن غزة لن تكون إسكندنافيا، لكن يمكن البقاء بالصيغة الإقليمية".
وختم بالقول إن "إحدى صعوبات التوصل لحل لغزة يتمثل بأن المنطقة تعيش حالة غليان واشتعال، بجانب الانقسام بين حماس وفتح، ولكن في حال وصلت السعودية، مصر، الأردن، ودول الخليج، فهذا يكفي".
الجنرال شلومو غازيت منسق شئون المناطق الفلسطينية في الحكومة الإسرائيلية بين 1967-1977، قدر "حصول هذه المسيرات التي تشهدها حدود غزة قبل أن تقع، لأن إسرائيل حولت القطاع لجزيرة من الفقر، وحين انسحبت منه جعلته معسكر اعتقال كبير يقطنه مليونا إنسان وضعهم آخذ بالتدهور مع مرور الوقت".
وقال: "السيناريو الذي ما زال يخيفني أن يأتي مجددا خمسون ألف فلسطيني من غزة يقتحمون الحدود باتجاه إسرائيل".
وأضاف غازيت، الرئيس الأسبق لجهاز الاستخبارات العسكرية "أمان"، أن "الانفصال أحادي الجانب من غزة، وعدم الحديث مع حماس، هي مشكلة في الزعامة الإسرائيلية، تمنع أي تقدم في الحل، وتبقي على سكان غزة في حالة كثافة سكانية كبيرة تحت حصار بحري وبري وجوي، هذه كارثة أن يحيا الناس دون ماء أو كهرباء، إسرائيل مطالبة بإحداث تغيير في سياستها تجاه غزة، والعمل على تحويلها دولة مستقلة، مع مطار وميناء وطرق معابر واتفاقات دولية لترميم البنى التحتية".
وختم بالقول إنه "ليس لإسرائيل مستقبل إن لم تتوصل لحلول مع الفلسطينيين، حتى لو أتينا بكل يهود العالم هنا، سنعيش وسط ملايين الفلسطينيين المعادين، وكل من يفكر بإمكانية البقاء بهذه الطريقة عليه أن ينسى ذلك، يجب التوصل لحل، لا أتحدث عن سلام، بل حل، وإلا يجب التقليل من فرص الاحتكاك بين الجانبين، دون الوصول لمرحلة الانفجار، وإن لم يتم القيام بذلك، فإني أخشى ألا تكون هناك دولة إسرائيل".