تغيرت المعادلات في سوريا بدرجة كبيرة، ويمكن وصف ما حدث بالانعطافة الحادة، وعبر سلسلة من التكتيكات والخدع والإجراءات، المخالفة للمنطق والقوانين الإنسانية.. صار أبناء سوريا، إما مشردين ومنفيين، وإما مظلومين ومحاصرين بالقهر، في حين يصول قتلتهم ويجولون في البلاد، وها هم اليوم يفصلون الحلول السياسية على مقاساتهم ووفق مصالحهم وهواهم.
كيف ولماذا حصل ذلك؟ الحل السياسي في سوريا يجري اختصاره بإجراء تعديلات بسيطة على دستور صمّمه نظام الأسد سنة 2012، في حين حصلت الثورة ضده قبل ذلك بعام، فأي رابط بين المسألتين؟ ولماذا جرى لي عنق الوقائع بهذه الطريقة القاسية؟ والسؤال لماذا قبلت المعارضة بهذا التحريف أصلاً؟ ربما يقول البعض إن المعارضة لا تستطيع التأثير في هذا السياق، لكنها شريكة في آستانة وسوتشي وكل الفعاليات التي أوصلت الأمور إلى هذه المرحلة!
الحل السياسي في سوريا يجري اختصاره بإجراء تعديلات بسيطة على دستور صمّمه نظام الأسد سنة 2012، في حين حصلت الثورة ضده قبل ذلك بعام
كيف استطاع بشار
الأسد، الحفاظ على حكمه، من خلال تواطئه مع
روسيا وإيران على قتل الشعب السوري والسماح لهما باتخاذ كل ما يلزم في هذا المجال، الذي شكل مسارا معمدا بالدم والتدمير والتهجير الديمغرافي، واليوم يثبت حكمه بالتواطؤ مع إسرائيل وأمريكا اللتين مسحتا له كل جرائمه مقابل
إبعاد مليشيات إيران عن حدود الجولان؟ ترى أليست هذه لعبة إيرانية، بمعنى أن مليشياتها أدت دوراً وظيفيا نتج عنه في النهاية إعادة تعزيز نظام الأسد، تماما كالدور الوظيفي الذي لعبه تنظيم داعش عندما جعلت الأسد محاربا للإرهاب وهو ليس سوى قاتل وصانع لداعش؟
ماذا كانت فائدة مناطق خفض التصعيد إذا لم يكن استثمارها من المعارضة للوصول إلى حل سياسي متوازن؟ لماذا انتهى الأمر على هذه الشاكلة؟ بل أكثر من ذلك مع وجود حزمة قوانين، صدر بعضها والباقي قادم على الطريق تسعى إلى اجتثاث الأكثرية السورية وإفقارها وجعلها محطمة لعقود قادمة، فيما بشائر استمرار تناسل حكم عائلة الأسد عادت تنبعث فيها الحياة؟
اليوم تجري مهزلة جديدة مقدّر لها أن تنتهي باستعادة نظام الأسد
السيطرة على جنوب سوريا، ومن دون قتال، لمجرد أن توافق الأطراف الإقليمية والقوى الدولية على هذا الحل. ومن الغريب أن فصائل الجنوب كانت تعتقد أن الدول "الداعمة" لن تسمح بأي تغيير في الجنوب قبل الوصول لحل سياسي شامل في سوريا، ولا نعرف أي دول تلك التي يمكن الاعتماد عليها لتحقيق مصلحة السوريين أكثر من مصالحها؟
أليست هذه لعبة إيرانية، بمعنى أن مليشياتها أدت دوراً وظيفيا نتج عنه في النهاية إعادة تعزيز نظام الأسد، تماما كالدور الوظيفي الذي لعبه تنظيم داعش؟
لكن ماذا عن فصائل المعارضة نفسها؟ ورد في الأخبار أن الحشود العسكرية التي وصلت إلى الجنوب ليست سوى قوات نظام الأسد العائدة الى مواقعها، التي خرجت منها قبل شهرين، بعد أن حاربت في الغوطة والقلمون وحمص.. والمعارضة التي سمحت لقوات الأسد بإنهاء
الثورة في مناطق أخرى ولم تستثمر الفرصة لتحسين مواقعها لا تستحق التعاطف معها، المعارضة التي وثقت بالوعود الروسية من الطبيعي أن تزيحها روسيا عن المشهد اليوم.
يوم طرحت روسيا فكرة "مناطق خفض التصعيد"، قبل عام من هذا التاريخ، لم يسألها أحد عن اليوم التالي، كان المطروح أن هذه الصيغة ستؤسس للحل السياسي في سوريا والذي سيقوم على قاعدة أن لا حل عسكري للأزمة السورية، فلماذا يجري القبول اليوم بالحل العسكري كأسلوب وحيد ممكن للأزمة السورية؟
الواضح أن ثمّة من يريد إيصال رسالة لكل الشعوب، القريبة والبعيدة، بأن لا جدوى من الثورة، وغير القهر والخسارة لن تكون هناك أي نتيجة واضحة
رغم عدم إيماني بالتفسير المؤامراتي، بيد أن ما حصل فعلاً لا يمكن تفسيره خارج نطاق التآمر. فالواضح أن ثمّة من يريد إيصال رسالة لكل الشعوب، القريبة والبعيدة، بأن لا جدوى من الثورة، وغير القهر والخسارة لن تكون هناك أي نتيجة واضحة. وها هم بالفعل يضعوننا اليوم أمام سؤال: ما الجدوى من الثورة ومن التضحيات ودرب الآلام القاسي إذا كان ما تحقق يمكن تحصيله بوقف احتجاجية ليوم واحد أمام البرلمان؟
والمقصود بكل ما تحقق هو تشكيل لجنة لن تعدّل الدستور؛ لأن حتى هذه المكرمة التافهة من روسيا والعالم، ملغومة ومفخخة، حيث حصة روسيا ونظام الأسد أكثر من ثلثي أعضاء اللجنة، وبالتالي استحالة موافقة هذه اللجنة على أكثر من قشور القشور. وماذا عن مئات آلاف القتلى وملايين المعاقين والجرحى، بالإضافة إلى الملايين الذين تجردوا من جنسيتهم وأصبحوا بلا وطن، هل عليهم قبول استمرار عائلة الأسد في السلطة ونسيان مأساتهم؟ هل بوتين عبقري إلى درجة استطاع أن ينوّم العالم مغناطيسياً ويمرّر مخططه كما رسمه بدقة متناهية، أم ان العالم كان يبحث عن مشعوذ يلهيه عن خجل الضمير؟