يتوالى الحديث عن تلك الوقائع المتواترة لاعتقال نشطاءٍ سياسيين ومدونين في
مصر، (بغض النظر عن طيفهم وتوجهاتهم الفكرية أو الأيديولوجية)؛ لتُحقق بها الحكومة رقما قياسيا جديدا في قائمة أعداء حرية الرأي والتعبير، بعد الرقم السابق والإنجاز المرصود لها في قائمة الكبار كأكبر سجنٍ للصحفيين، ولتجعل من مصر إحدى الدول الأولى لأعداء العمل الصحفي، بحسب مؤشرات وتقارير مراسلين بلا حدود ولجنة حماية الصحفيين بنيويورك، وغيرهما من منظمات العمل المدني، وبحسب تقاريرَ صادرةٍ عن المقررين الخواص التابعين للأمم المتحدة ومجلس
حقوق الإنسان، وغيرهما.
إن هذه المراحل المتقدمة في قوائم العار هى نتاج عملٍ لجهد متفانٍ ومتواصلٍ وشبه يومي لقوةٍ أمنيةٍ غاشمة، وإن تبدو عادلة في اختيار ضحاياها وتوزيع البطش عليهم بالتساوي؛ لينال الجميع نصيبه الوافر وما يستحقه من تكديرٍ وبطشٍ واستتابةٍ على خطيئةٍ غير مغتفرة؛ لا لشيء إلا لمناداته يوما بالحق في التغيير والكرامة الإنسانية. بيد أن ما لفت نظري هو ذلك الانقسام الحاصل على مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا الحديث الشعبوي وحملات التشويه الأخلاقي، والتراشق، وخطاب الكراهية المتزايد بين كل هؤلاء من معسكر ضحايا الاستبداد، ولتتسع دائرة الانقسام المجتمعي المفرغة، والتي لم ولن نخرج منها طالما فرغت الساحة الثورية من حركاتٍ وطنيةٍ حية ذات رؤيةٍ مستقبليةٍ مؤثرة، ووعيٍ سياسي قوي، ونخبة وطنية جديدة قادرة على خوض معارك الوعي المجتمعي ومحو الأمية الثقافية، جنبا إلى جنب مع محو الأمية التقليدية لمجتمعنا المهترئ، والعمل على ترسيخ وعيه الجمعي عن حقوقه وحرياته الأساسية التي تنفسها يوما ما ومارسها على عجل مع نسمات الربيع العربي في 2011م، والذي لم يكتمل، واشتد صيفه؛ لتجف تلك النبته الخضراء الضعيفة التي خربتها عواصف ورمال صحراء النفط القاحلة، وغيرها من قوى إقليمية وإمبريالية رجعية تكالبت لوقف هذا المسار الديمقراطي، وليظل التحدي العملي والأولوية القصوى الحتمية هي تشكيل خطابٍ ثقافي وحقوقي بديل؛ يساهم في إعادة إحياء وترميم الجماعة الوطنية، لتتجاوز الانقسامات الأيديولوجية والفكرية المترتبة، ومتلازمة النقاء الأيديولوجي والمظلومية التاريخية لأزماتنا السياسية، بعدها سنتجاوز موروث عقود من حكم الأنظة البوليسية، وسنتمكن من التصدي بقوة ومسؤولية لسياسات النظام التكتيكية، وممارساته القمعية والترهيبية، وانتهاكاته المتزايدة ضد الحقوق الأساسية للإنسان المصري، وسعار حملاته البوليسية ضد حرية الرأي والتعبير وتكميم الأفواه وزيارات الفجر لكل من تجرأ على مخالفته والتعبير، ولو بمشاركة نشر خبر أو حتى نقله لتقريرٍ عن موقع لمنظمة ما أو وكالة خبرية يحمل انتقادا لسياسات النظام، ليجد هذا الناقل للخبر نفسه تحت طائلة اتهامات ساذجة وغير متصورة، ورديئة القيد والتوصيف.. اتهاماتٍ معلبة وجاهزة كالوجبات السريعة، تفتقد حتى للحِنكة والخبرة القانونية الواجبة لتجميل أركان ممارسات النظام، والتي طالما عرفناها مع ترزية القوانين في العصور السابقة. لكن يبدو أن منفذي حملات التتبع القضائي هذه يفتقدون لأدنى قواعد الحرفية، والخبرة التراكمية، بل أيضا فاتهم حتى القاعدة العرفية أن "ناقل الكفر ليس بكافر"؟!
بقدر ما تُشكِّل تلك الممارسات القمعية ضد مختلف الأطياف من نشطاء سياسيين وناقدين ومدونين ومدافعين عن حقوق الإنسان والحريات؛ خطرا وتكنيكا لإسكات هؤلاء، وتشويههم أخلاقيا؛ بغرض عزلهم مجتمعيا، بقدر ما يمثل أيضا ذلك حطبا في وقود معركة الانقسام المجتمعي، وعود ثقاب لخطاب الكراهية، والاستقطاب الأيديولوجي، وإن كنت لا أنكر أن هذه المساحة من حرية الرأي على منصات التواصل الاجتماعي لها فوائدها أيضا في قراءة ورصد مؤشرات الغضب الشعبي. ولكن كما أشرت، فهي ممارسات تعمّق من الازدراء للآخر، وتزيد من الانقسام المجتمعي والصراع الأيديولوجى، وهذا يضعف ويفتت من تماسك بنية المجتمع، ويصعِّب مهمة وقدرة الجماعة الوطنية على خلق نقاشٍ مجتمعيٍّ مفتوح، جادٍ ومسؤول، بعيدا عن الاستقطاب والتراشق والتشنجات.
لا شك أنه لم يعد مقبولا بأية حال أن يُترك مجتمعنا في هذة الحالة من الاهتراء والانقسام المجتمعي، ونحن نكتفي فقط بردة الفعل مع كل صفعةٍ وكل انتهاكٍ واعتقالٍ لضحية ما، وهذا الغياب لدور الجماعة الوطنية سيصب في صالح ترسيخ أركان ممارسات الأنظمة البوليسية، ويساعدها على إعادة تشيكل أذرعها السياسية.
لعلي أقولها ثانية، وقد رددت ذلك مِرارا لعل آذانا تصغي أو عقولا تعي أو قلوبا تحس بقدر هذه المرحلة التاريحية وخطورتها: إن على الجماعة الوطنية أن تبادر إلى إعادة ترميم نفسها، وأن تخلق بدائل استراتيجية جديدة؛ تهدف في المقام الأول إلى خلق قنوات اتصالٍ مؤثرة مع الجمهور العريض والسواد الأعظم من الشعب المصري، الصامت كمدا، بما يساهم في حلحلة ذلك الوضع الراكد في الحياة السياسية الرافضة للانقلاب، وإيجاد حلولٍ فاعلة للأزمات، وتفعيل ممارسات حيوية على الأرض قادرة على قراءة الأدوات، وبناء استراتيجيات لمقاومة الاستبداد، ومناصرة الضعفاء، والمنتهكة حقوقهم بلا تمييز، متجاوزة الانقسامات. ولن يتم ذلك إلا بتعزيز الخطاب السياسي المسؤول من كافة الأطياف الوطنية المناهضة للانقلاب، وإعادة روح المواطنة التي عرفتها وأصّلت لها في أبهى صورها الحقيقية، لا المزيفة.. ثورة يناير المجيدة والمنتصرة، وكذلك بتعزيز مفاهيم دولة الحق والقانون التي تؤمن بالمشاركة لا المغالبة، وحق الجميع في مواطنة تشاركية حقيقية تجعل تمكين المواطنين جميعا دون تقسيم مصدرا للقوة والغنى لأمة ناهضة من رقاد الموت، وتتسم بالإنصاف والعدالة مع جميع أبنائها دون كراهيةٍ أو طائفيةٍ أو تمييز، ولا تقدم الأقليات أو غيرها من المخالفين أيديولوجيا ككبش فداءٍ لنيل رضى شعبي، أو خلق شعبويةٍ سياسيةٍ مراوغة لا تبرح مكانها، وإنما تعمق من ضعف بنية ولُحمة المجتمع المصري، وتجعله فريسة سهلة لكل طاغية، أو تربة خصبة لكل مشاريع التفكيك والتقسيم والبيع نقدا أو بالتقسيط.