ليست كل المخدرات تؤخذ عن طريق الفم.. المخدرات البصرية أسوأ، وقابلة للتأميم وللتعميم، وتسبب الإدمان، وليست مثل المخدرات التي تؤخذ بالفم.. ونحن جميعاً نتناول الحشيش من الملاعب، ومصابون بالإدمان وسلام الله على الأغنام.
سقط
محمد صلاح، فتضررت كتفه، فبكى، وبكى معه الملايين من العرب.. الأغلب أنه بكى ليس لأنه جزمته ضيقة، ولا من ألم إصابة كتفه، ربما بكى لانكشاف ظهر أمّة ليفربول، وربما أمة العرب، اللتين وحدتهما آلام كتف محمد صلاح، ولمّت منهما شملهما. وحتى إن شفي من إصابته، ولعب مع الفريق
المصري في كأس العالم، ونجا من راموس جديد، وحقق بعض الانتصارات، وجعل مصر أم الدنيا و"قد الدنيا"، فإن خيط الفريق المصري مثل خيط مصر، مربوط بيد السيسي. فالرئيس العربي يشبه الضبع الذي يراقب الفهد الصيّاد، وبعد أن يصيد، يظهر، ويغنم الطريدة، فالفهد أضعف من مواجهة فكي الضبع.
كبر السيسي كثيرا، وقد أكثر السيسي من عبارة "ولادي" في الحديث الأخير، وله في السادات أسوة حسنة، فكل مجد يحققه ولده محمد صلاح، أو ولده عادل إمام، أو ولده عمرو خالد، وهؤلاء هم أئمة المجد المعاصر، سيعود إلى جيب الأب وكرامته، أما محمد أبو تريكة، فهو منبوذ ومطلوب لعدالة مصر الشامخة، والسبب هو أنه أنضج فكرياً من محمد صلاح، ويعرف الفرق بين الجزمة والرأس.
حقدت العرب يوم المباراة في وقعة عمورية الثانية بين الروم والروم، على عدو العرب الأوحد سيرجيو راموس، واشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي بالشتائم واللعنات، كأن راموس شيطان رجيم، ونسي العرب إسرائيل وأمريكا (والإخوان المسلمين)، وعمل مذيع النظام الأشهر، أحمد موسى، شرطياً لمرور المشاعر المقدسة، يوحدها، ويوّجه عواطف الشعب العربي والمصري المسجونة، ويحرضهم على كراهية راموس، ويطالبهم بلعنه. فهو استثمار سياسي، وله غلال وطنية وفرعونية وفيرة، ولم أسمعه يدّعي أن راموس من الإخوان، وهذا غريب.
لكن قائلاً سيقول: أخي جاوز الظالمون المدى، وكرامة العرب في الحضيض، والليل الأسود يحيط بهم في كل مكان، ومحمد صلاح جاء في اللحظة التاريخية الحرجة، ورفع رأس العرب عالياً. فالعرب تجيد شيئاً غير الإرهاب المتهمون به، وكرة القدم فن بات مطلوباً من العرب البراعة فيه، وقد وحّد محمد صلاح الشعبين؛ شعب ليفربول والشعب العربي. ومحمد صلاح الذي يختصر اسمه بـ"موساليه" مسلم صالح، وإن ذهب إلى تل أبيب مرة، فقد رفض أن يصافح الفريق الإسرائيلي، الرجل يستحق الإعجاب والمجد، فقد حوّل الملاعب الغربية الكبرى إلى مسجد، وهذه دعوة ناعمة إلى الله.
ها هي الجماهير قد ضلّت، فسعدت بسجدات محمد صلاح على أهدافه في المرمى، أما أهداف الشعب العربي، فستطول في طريقها إلى غاية التحقيق، هو يسجد لله، والجماهير تسجد له أو تكاد، وهو ما لم يحصل قط لنجم قبله. كما أن دعاة معروفين بالتقوى والثورية؛ غووا وفتنوا به، وغردوا له، وبكوا عليه ومعه، وكادوا أن يقولوا له: لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك... ليس كل العرب يحبونه، فالسعودية، ومعها الإمارات الرسميتان تبغضانه، مع أنه مصري، ومصر حليفة، وقيل في السخرية: إن كل سجدة لمحمد صلاح ستكلف السعودية شراء لوحة مثل لوحات المسيح المخلص، فهو يعطل لعب السعودية وثورتها المضادة على الوهابية. كاتب مصري معروف كتب: إن فعلة راموس جريمة ضد الإنسانية!
وقد ترينا الأيام أن سيرجيو قد فعل فعلته مقابل كمية من الرز السعودي والإماراتي، مع أن مصر حليفة لهما، المهم أن نخبة الجماهير صحت في اليوم التالي، فتذكرت كاتب غزة، وتذكرت شاعر الشهداء، وأن محمد صلاح ليس خالد بن الوليد، ولا صلاح الدين الأيوبي، وكان الجواهري، والشعراء يتبعهم الغاوون، قد مدح محمد علي كلاي يوماً فقال:
شِسعٌ لنعلِكَ كلُ موهِبةٍ ... وفداءُ زندِك كلُ موهوبِ
محمد علي كلاي كان أسود، وكان سواده والظلم العنصري في أمريكا؛ قد علماه تأويل الأحاديث، وفهم الوقائع، وأنضجاه وأكسباه الحكمة. وكان بطلاً للعالم، وله مواقف مشهودة، ليست لمحمد صلاح، فالرجل رفض القتال في حرب فيتنام، وسجن، ورفض أن يدوّن اسمه على الأرض تكريماً لصاحب الاسم الذي سمي به. ولا يبدي محمد صلاح مثل هذا الوعي والفهم، وإن رأيناه أمس يجر حقيبته، وكان قد غطى رأسه، وإلا أكلته الجماهير، كما أكلت جان باتسيتغرونوي في رواية العطر، والمعلق يقول، عن المعجزة: محمد صلاح يجرُّ العربة بيده المصابة.
فيروز كانت أكثر نضجاً من محمد صلاح، وتحرص كل الحرص على ألا يستغل الرئيس العربي مجدها في الدعاية، أو اكتساب الشرعية، وتنميتها وتربيتها. لم ننجح في منهاج الرياضة، ونحن راسبون في كل المواد، وإن برز لاعب في غفلة من عين القدر.. أول آية نزلت من القرآن كانت اقرأ، وليس العب.
لاعب وحيد، قلوب رجال الأمة وعقولها معلقة بضربة نعله، والوطن ليس فيه فريق كرة قدم جيد، وليس فيه فريق في أي شيء سوى فريق السيف، ويخشى ألا يكون "قد المسؤولية"، ويأكله الذئب، ويسرق قميصه ويلطخه بدم كذب، وينشله مثل الكحل من العين، وهو يرتع ويلعب، وكأن كل شيء على ما يرام يا عبد السلام.
عبّر مصري من قرية محمد صلاح عن ألمه، لما حلَّ بكتف الفتى، وفجيعة الأمة وذلها، قائلاً، وفي صوته نحيب وبكاء: ليه يعملو كده بالواد اللي حيلتنا.
آه يا رجائي أنا كم عذبني طول الرجاء.