هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
مضت الانتخابات التركية وظهرت النتائج الرسمية بفوز مرشح حزب العدالة
والتنمية وحزب الحركة القومية، رجب طيب أردوغان، لتنتهي الانتخابات الرئاسية من
الجولة الأولى، وبنسبة لم تتوقعها معظم شركات الاستطلاعات التركية، التي يكون في
العادة معظمها مسيسا، وتستخدم النتائج المعدلة لاستطلاعاتها للتأثير في رأي
الناخبين.
اعتاد
المتابعون في كل الانتخابات التركية على الأداء المميز للعدالة والتنمية في حملاته
الانتخابية، من حيث الاستراتيجية والمحتوى الإعلامي. والانتخابات الرئاسية الأخيرة
لم تكن حالة استثنائية، وإن كانت دون المستوى المعتاد على الصعيد الإعلامي، لكن
التوجه الذي اتخذه العدالة والتنمية هذه المرة كان مختلفا عما سبق من الحملات، حيث
أننا اعتدنا من الحزب التركيز في الحملات السابقة على الإنجازات التي نفذها الحزب
في دوراته السابقة ووعوده للدورة التالية، مع إظهار ضعف وفشل المنافسين على هذا
الصعيد.
لكن ومن وجهة نظري، ومن خلال متابعتي للحملة الحزبية ومتابعة التغيرات في
نتائج الاستطلاعات، فإن الاستراتيجية هذه المرة كانت فيها إضافة هامة لسياسته
المتبعة في التركيز على الإنجازات التي تمت في عهده والتعهد بإنجازات جديدة.. كلها
بالأرقام والحقائق. فقد سعى حزب العدالة والتنمية لتصعيد أحد منافسيه، وهو مرشح
حزب الشعب الجمهوري محرم إنجه، رغم ما في ذلك من مخاطرة على العدالة والتنمية،
وطمس الآخرين، وهما مرشحا حزب السعادة تمل كرى مولا أوغلو ومرشحة الحزب الجيد
ميرال أكشينر، عبر سياسة التركيز على جعله المنافس الوحيد في خطاب وإعلام العدالة
والتنمية. وبالطبع لم تكن سياسة واستراتيجية الحزب هي العنصر الوحيد في صعود نجم
الرجل، لكن واضح أنها ساهمت في ذلك.
استراتيجية
تصعيد منافس واحد سهّل الهزيمة!
واعتمدت
استراتيجية حزب العدالة والعدالة والتنمية على عدة عناصر، منها:
1- دعم
صورة المنافس: فمنذ اللحظة الأولى لإعلان محرم إنجه مرشحا لحزب الشعب الجمهوري،
وعلى غير المتوقع، كان هناك تركيز في الإعلام الحكومي المعروف بتأثره بقرارات
الحكومة، وكذلك الإعلام الخاص الداعم لحزب العدالة والتنمية، بل إن من أهم وأقوى
الصور التي انتشرت في الإعلام هي من تصوير الوكالات والصحف المقربة للعدالة
والتنمية، وحتى وكالة الأناضول الرسمية.. كل هذا كان في الأيام الأولى لترشح إنجه.
2- التركيز
على المرشح المنافس وإظهاره على أنه التهديد الوحيد، حيث كان هذا خطاب العدالة
والتنمية، من رئيس الحزب ورئيس الجمهورية (أردوغان)، مرورا برئيس الوزراء وليس
انتهاء بالبرامج المتلفزة والخطابية للحزب وإعلامه.
3- تهميش
المنافسين الآخرين، حيث كان من القليل جدا المرور في خطاب أردوغان أو قيادات الحزب
على أي نقد هام موجه للمنافسة الأهم بعد إنجه، وهي مرشحة القوميين الليبراليين
ميرال أكشينار، أو لا مرشح حزب السعادة ذي التوجه الإسلامي.
لماذا
محرم إنجه؟
من
وجهة نظري فقد لعب الحزب في هذا الاستراتيجية على هدفين، أحدهما خاص بالانتخابات
والآخر بما بعدها. فحزب العدالة والتنمية معروف عنه أنه يتحرك في مراحل الانتخابات
بناء على دراسات وأرقام ميدانية تغذي الحزب عبر قواعده وعبر شركات الاستطلاع التي
تعمل معه باستمرار. وقد طور الحزب السياسة المذكورة بناء على ذلك.
أما
الهدف الخاص بالانتخابات فقد تركز على عدة أسباب، علما أن الاستراتيجية لحملة
أردوغان تركزت على إنهاء الانتخابات وفوز أردوغان من الجولة الأولى. ويمكن إجمال
هذه الأسباب فيما يلي:
- التركيز
على منافس يمكن أن يجمع المعارضة المختلفة في الفكر والسياسة عن مناصري أردوغان،
حيث لا يشكل تهديدا عبر سحب بعض القواعد القريبة من العدالة والتنمية أو حليفه حزب
الحركة القومية. فمحرم إنجه ذو التوجه السياسي الكمالي العلماني المتطرف؛ لا يحصل
على الكثير من أصوات الناخبين المحافظين أو المقربين منهم.
- التركيز
على منافس له تاريخ حافل بالعداء لكل التيار المحافظ والإسلامي، مثل إنجه المعروف
أنه كان من المعارضين الشرسين للتحول (التكتيكي المؤقت فقط) نحو اليمين في توجه
حزب الشعب الجمهوري، والذي بدأه رئيس الحزب الحالي منذ الانتخابات الرئاسية
السابقة، مما يسهل تشويه صورته لدى قواعد الحزب ومنع أي توجه نحوه.
- عدم
التركيز في الوقت ذاته على المرشحة ميرال أكشينر لأنها تشكل تهديدا من ناحيتين
لحزب العدالة والتنمية وحليفه الحركة القومية، حيث أنها كانت جزءا من التيار
المحافظ في تركيا منذ ما قبل العدالة والتنمية، وحتى أنها كانت عضوا في العدالة
والتنمية لمدة أربعة أشهر ثم استقالت، وكذلك كانت من قيادات الحركة القومية، وفي الوقت
ذاته ليس لديها تاريخ سياسي معاد للتيار المحافظ في تركيا، مما يعني أنها كانت من
الممكن أن تجذب جزءا من قواعد الحزبين وإضعاف فرص أردوغان في الفوز من الجولة
الأولى.
- بالإضافة
لكل هذا، فإنه في حال فشل أردوغان في الحسم من الجولة الأولى فإن جولة الإعادة
أمام محرم إنجه كانت ستكون أسهل منها أمام أكشينر؛ لأنها قومية ليبرالية كانت
قادرة على استقطاب كل أنصار الشعب الجمهوري بالإضافة لأنصار حزبها، وحتى بعض
الغاضبين من المحافظين كونها امرأة ومحافظة، وفي الوقت ذاته لها وجه ليبرالي
حداثي، وهذا ما لم يكن متوفرا لدى إنجه ذي التوجه العلماني الكمالي الحاد الذي كان
سيحول دون تصويت المحافظين وحتى الليبراليين له، وسيكون اليمين بكل ألوانه مستنفرا
للتصويت ضده خوفا من تبعات فوزه عليهم.
أما
في ما يخص ما بعد الانتخابات، فإن استطلاعات الرأي التي لدى العدالة والتنمية كانت
دقيقة وتعطي مؤشرات حقيقية على النتيجة المتوقعة؛ من تجاوز حزب الشعوب الديمقراطي
لنسبة الحسم الانتخابي، مرورا بنسبة كل من المرشحين، وعلى رأسهم المنافس الذي دعم
الحزب صعوده عبر جعله المنافس الأقوى، وهو الأهم في هذا الجانب، حيث أن إنجه كان
يعتبر المنافس الأقوى لكمال كليتشدار أوغلو، رئيس الحزب الحالي، في آخر انتخابات
حزبية.
وبناء
عليه، فقد كان دعم صعود محرم إنجه بناء على هذه التقديرات مهما لما بعد
الانتخابات؛ لإدخال حزب الشعب الجمهوري في تنافس وتناحر داخلي بعد الانتخابات،
خاصة أن كثيرا من المتابعين يعتقدون جازمين بأن ترشيح كليتشدار أوغلو لإنجه إنما
جاء لوضعه تحت وزر الهزيمة أمام أردوغان، الأمر الذي كان محور الهجوم الذي يقوده
إنجه على كليتشدار أوغلو. وإن أي شعور بنشوة النصر أو التقدم كان مهما لإثارة إنجه
في وجه قيادة الحزب كقيادي أقوى، وهذا ما حدث بالفعل.
فقد
تحرك جزء من قواعد الحزب منذ إعلان النتيجة لتحميل القيادة نتيجة الهزيمة
والاحتفاء بإنجه لحصوله على نسبة من الأصوات غير مسبوقة في تاريخ الحزب منذ أربعين
سنة. وفي الوقت ذاته، فقد كان خطاب إنجه يوحي بأنه قد بدأ في حراكه ضد القيادة
الحالية، وخاصة إعلانه - على غير عادة المنهزمين في الانتخابات - عن نيته عمل
زيارات ومهرجانات جماهيرية لقواعد الحزب وأنصاره لشكرهم على دعمه في الانتخابات،
وهو ما يفسره الكثيرون بأنه محاولة لتجميع أكبر قدر ممكن من الأنصار له بين قواعد
الحزب، وفي الوقت ذاته تأليبهم على القيادة الحالية، وهو آخر ما يتمناه حزب الشعب
الجمهوري في ظل الحديث عن انتخابات محلية (بلدية) مبكرة خلال ستة أشهر أو أقل من
الآن.
أي
أن حزب العدالة والتنمية من وجهة نظري نجح من خلال استراتيجيته في تصعيد من يريد
من المنافسين في ضمان الفوز في الانتخابات الرئاسية من أول جولة، وفي الوقت ذاته زرع
بذور الخلاف في الحزب المنافس الأكبر على أعتاب جولة جديدة من الانتخابات، مما قد
يفضي إلى التخلص من رئيس حزب الشعب الجمهوري الحالي الذي يعتمد المكيافيلية
كقاعدة. فالغاية لديه تبرر أي تحالفات سياسية من أجل إسقاط أو إفشال أردوغان
وإيقاف قطار العدالة والتنمية.