على الرغم من الشكل الفوضوي الظاهري، لانخراط القوى الخارجية في الصراعات والأزمات العربية، والتداخلات الواضحة في أدوارها ومجالات تحركها، إلا أن ثمة تفاهما، يصعب إخفاؤه، ساهم بدرجة كبيرة في ضبط علاقات هذه القوى ضمن سياقات مشاريعها الجيوسياسية للمنطقة، وهذا ما يفسر بدرجة كبيرة أسباب ارتفاع منسوب التأزم في القضايا العربية، بتناسب طردي مع الانفراجات الدائمة في علاقات هذه الأطراف، أو على الأقل نجاتها من التصادم البيني بينها، رغم تعقد وتشابك الأزمة وإجهاض حلول الأزمات بشكل دائم.
يقوم هذا التفاهم على قاعدة أن منطقة الشرق الأوسط واسعة على طرف واحد، ذلك أن القوى التي تريد ضم هذه المنطقة إلى خانة مناطق نفوذها، عليها أن تتولى أمر إدارة صراعاتها اللامتناهية وضبط توازناتها الآيلة إلى التفلت على الدوام، وهو ما يرهق أي قوة مهما بلغت قدراتها وإمكانياتها، وهذا ما حصل مع أمريكا التي غرقت في صراعات المنطقة، من الفترة 1990 إلى بداية هذا العقد، وشكّل هذا الواقع محركاً لطلب تيار أمريكي واسع الانسحاب من رمال الشرق الأوسط؛، التي يصعب على أي قوّة تحقيق الانتصار الناجز فيها، إلى جنوب شرق آسيا حيث الربح الصافي في منطقة مزدهرة وواعدة.
منطقة الشرق الأوسط واسعة على طرف واحد، ذلك أن القوى التي تريد ضم هذه المنطقة إلى خانة مناطق نفوذها، عليها أن تتولى أمر إدارة صراعاتها اللامتناهية وضبط توازناتها الآيلة إلى التفلت على الدوام
لكن في الوقت ذاته، لا تتسع المنطقة لأكثر من طرفين يديرانها ويضبطان صراعاتها، وهذه المعادلة استقرت منذ بداية القرن الماضي، حين تقاسمت بريطانيا وفرنسا النفوذ في المنطقة، وأبعدتا أي نفوذ لألمانيا وإيطاليا، فيما جرى حصر النفوذ الإسباني في زاوية ضيقة في أقصى صحراء المغرب، كما تم إخراج روسيا من المعادلة، رغم أن حصتها من تقاسم النفوذ، حسب اتفاقات سان ريمون تركزت خارج البلاد العربية، في إيران.
ولتجاوز هذه الإشكالية المتمثلة بعدم إمكانية استيعاب أكثر من لاعبين في المنطقة العربية، فقد جرى حل الأزمة عبر لعبة المنظومات، حيث تشكل أمريكا رأس منظومة، فيما تشكل روسيا (أو الاتحاد السوفييتي سابقاً) رأس المجموعة المقابلة، على أن يتم احتساب النفوذ الذي تحققه القوى الفرعية "الإقليمية" في إطار مكاسب المنظومة التي تنتمي لها. وتم استيعاب الطاقات الإقليمية وتشغيلها ضمن مدار القوى الدولية المحركة، بهدف استهلاك هذه القوى من جهة، وتنظيم الصراع بين الأقطاب من جهة أخرى.
وقد صبغ هذا الوضع، على الدوام، مكاسب الأطراف الإقليمية، بصبغة المؤقت والمتحرك، وليس الثابت والدائم، وذلك لكون استمراره مرهونا ببقائه تحت مظلة القوى الأساسية من جهة، ولكونه رصيدا قابلا للتفاوض عليه بين الطرفين الأساسيين، أو رهينة لدى الأطراف الإقليمية إلى حين الطلب. وكانت أولى تطبيقات هذه الحالة في التسويات التي جرت بين إسرائيل والدول العربية بطلب أمريكي، ونراه اليوم بوضوح في الصراع السوري، حيث فرضت روسيا على إيران الانسحاب من جنوب البلاد؛ تطبيقاً لتفاهمات مع أمريكا، وكذلك اضطرار تركيا لعقد تفاهمات مع أمريكا وروسيا للاعتراف لها بأدوار مؤقتة في شمال
سوريا.
ليست الوقائع المدمرة التي تعيش في ظلها سوريا والعراق واليمن وليبيا وفلسطين سوى انعكاس أمين لتطبيق هذه المعادلة. وليس ثمة ما يبشر بإمكانية العدول عن هذه المعادلة؛ لأنها ببساطة تبدو مناسبة لأطرافها
لم يأت صراع النفوذ بين الأقطاب الدولية، وتوابعها الإقليمية على المنطقة العربية من فراغ، فالمنطقة على الدوام كانت تنطوي على مزايا استراتيجية واقتصادية حاكمة، بمعنى أن مواردها ذات تأثير فعلي على حركة التطور العالمية، ورمانة الميزان الاستراتيجي الدولي، لموقعها الجغرافي المتحكم بالمعابر الدولية، وثرواتها من النفط والغاز، وهي موارد ضرورية لأي قوة ترغب في التربع على عرش السيادة العالمية، لدرجة أصبح معها مقدار السيطرة والنفوذ في الشرق الأوسط يشكل أحد المعايير الأساسية لوضع دولة ما في خانة الدول العظمى، وتجربة روسيا في هذا الإطار ما زالت حيّة، ذلك أن مكانة روسيا الدولية ما قبل التدخل في سوريا غيرها تماما ما بعد التدخل، حيث فرضت نفسها لاعب دولي بجدارة.
تحقّق مثل هذا الأمر لن يتم بدون إصلاح المجال السياسي العربي وإعادة صياغته بصيغة مختلفة، ومغادرة الحالة الراهنة المتمثلة بإدارة شؤون السياسة والمجتمع في البلاد العربية بأدوات القرن الماضي
ليس صعباً اكتشاف مدى الضرر الذي تلحقه هذه المعادلة في الواقع العربي، الراهن والمستقبلي، وليست الوقائع المدمرة التي تعيش في ظلها سوريا والعراق واليمن وليبيا وفلسطين سوى انعكاس أمين لتطبيق هذه المعادلة. وليس ثمة ما يبشر بإمكانية العدول عن هذه المعادلة؛ لأنها ببساطة تبدو مناسبة لأطرافها، سواء لجهة جدواها ونتائجها المتحقّقة، أو لانخفاض تكاليفها بالنسبة لتلك الأطراف. والمشكلة أن هذه المعادلة ستبقى صالحة لأزمنة قادمة ما دامت قادرة على تحقيق المنفعة لأطرافها، وما دامت صالحة لإدارة التنافس والصراعات بين تلك الأطراف، وليس مهماً حجم تأثيرها على المجتمعات العربية، التي دخلت في طور التعفن، رغم ظاهرة الاستقرار الشكلية في أكثر من بلد.
وهذا ما يطرح ضرورة البحث عن سياسة عربية تهدف إلى كسر هذه المعادلة؛ لأن استمرارها يعني حكماً فقدان قدرة العرب على التحكم بمصائرهم وتحديد شكل مستقبلاتهم. ولكي نكون واقعيين، فإن تحقّق مثل هذا الأمر لن يتم دون إصلاح المجال السياسي العربي وإعادة صياغته بصيغة مختلفة، ومغادرة الحالة الراهنة المتمثلة بإدارة شؤون السياسة والمجتمع في البلاد العربية بأدوات القرن الماضي والعيش جسديا بالقرن الحالي.