هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكل يطالب الشريحة الشبابية بأن تكون سباقة للفعل والتأثير
والتغيير، وكل منابر الجمعة ووسائل الإعلام وخطابات الساسة تناشد الشباب أن يكونوا
رواد الواقع وسدنته وعنصر الأمل فيه. ولكن، هل وعت هذه الحناجر التي تتقن فن
التوجيه والتلقين بالنظريات والأوامر والضرورات الفلسفية حال الشباب وواقعهم،
وتفرست في طبيعة الحال الذي يعيشون فيه قبل أن تطالبهم من أبراج العاج التي تسكنها
أن يغيروا ويصنعوا المستقبل!
شبابنا
اليوم هم طاقات هائلة وخزان الأمل الحقيقي للغد الآتي ولا ريب، ولكن هذا الخزان
البشري الهائل يجري التلاعب بعقله، ويتم توجيه مليارات الدولارات لإسقاطه نفسيا
وسلوكيا واجتماعيا واقتصاديا، وبث حالات التيه أمامه ما بين النزاعات والتخويف من
المستقبل وصناعة النجومية الوهمية وقيادته نحوها، وضرب القيم والشخصيات الإيجابية
الموجودة في مجتمعه، وزيادة حالات الترفيه والانشغال عن الواقع والبناء المعرفي
والقيمي لديه بملذات الحياة وسهرات المقاهي وانتشار الآفات الاجتماعية الفتاكة
التي تذوب معها هويته وقيمه وشخصيته، فيخرج للمجتمع شابا من حيث الشكل طفلا من حيث
الجوهر.
لذلك،
وجب على النخب المثقفة والإعلاميين والسياسيين أن يدركوا قبل توجيه أي خطاب لشريحة
الشباب حجم الضغوطات الكبيرة التي يتعرض لها الشباب العربي في أيامنا هذه، فربّ
شاب صامت تدمع عيناه كل ليلة لما يشاهده من مشاهد القتل والتهجير والمعاناة
اليومية لراكبي البحر بحثا عن الحياة، وربّ شاب مرتب المظهر باسم الثغر يكتوي قلبه
بمصائب العراق والشام واليمن والمسجد الأقصى بما يترك عنده آثارا سلبية قد تدمر
شخصيته المتوازنة. وبغياب الرقابة النفسية والتوجيه الإيجابي والتغذية الروحية
والقيادة المتوازنة الرشيدة في أغلب بيئاتنا العربية، وجدنا اليوم شبابا يبحثون عن
شبابهم أكثر من بحث مجتمعاتهم عنهم.
من
هنا؛ كان لزاما على القائمين على مؤسسات الإعلام، والكتاب والباحثين وخبراء النفس
البشرية وعلماء الاجتماع أن يصوغوا أولويات المرحلة الحالية في التعامل مع الشباب
العربي، من خلال توجيهات موجزة واضحة هادفة، تفيد الوالدين في الأسرة، وتصنع
الإيجابية والتخصصية في البرامج التلفزية التي تستهدف الشباب، والتي لا بد أن تجمع
خاصية الجذب قبل خاصية التأثير، مع ضرورة تكثيف الضغط على المسؤولين السياسيين
والحزبيين في كل المجتمعات العربية أن يتنبهوا إلى أهمية الابتعاد عن التلقين
الروتيني في خطاب شباب اليوم، وأن ينزلوا من أبراجهم العالية، ليتلمسوا حال وواقع
الشباب، وليتكلموا مع الشباب بلغتهم ومن بيئتهم وبلسانهم، بعيدا عن لغة "يجب،
ينبغي أن، علينا أن، لا بد أن، تقتضي الضرورة، لزاما علينا، ونحوها من عبارات
الوجوب والإلزام".
خلال
تجوالي في عدد من بلاد العالم العربي مؤخرا، ومشاركاتي في عدد غير قليل من الدورات
التكوينية والتدريبية التي سعدت بها بمشاركات الشباب الواعدة، لمست حجم التغيير
الكبير في مستويات التفكير والتعامل والاهتمام والميول الفردية لدى الشباب العربي
اليوم، فالاهتمامات والأولويات قد تغيرت في حياته، والكل يسعى ليصبح مليونيرا في
فترة وجيزة وبلا تعب، العزوف عن القراءة والتعبئة الفكرية والروحية بات سمة غالبة،
والإدمان على الإنترنت السلبي أصبح صفة الشباب الملازمة لهم في حلهم وترحالهم،
وألغي مفهوم الصداقة والأخوة الحقيقية، والأسرة لم تعد في صدارة الاهتمام الشخصي،
والمظاهر والرياء والتظاهر بالغنى والفهم والتعالي بالمقتنيات الشخصية طغى على
حاجات المجتمعات النازفة لدينا، والكل يضغط على هذا الشباب ويريد منه كل شيء!
حري
بنا أن نشخص المشكلة بشكل دقيق قبل أن نشرع أقلامنا وألسنتنا بالمطالب والواجبات،
فللشباب حقوق على النخب المثقفة والسياسيين والإعلاميين والأكاديميين تسبق
متطلباتنا منهم، فإذا لم نجهز للشباب عرينهم كيف يمكن لنا أن نطالبهم بأن يكونوا
أسودا؟ وإذا لم نبن لديهم القيم الإيجابية، فكيف لنا أن نطالبهم بالمصداقية
والموضوعية والاهتمام بآلام مجتمعاتهم وجراحات الشعوب النازفة.
ولذلك،
وجب علينا نحن، النخب المثقفة والكتاب والإعلاميين والأكاديميين والسياسيين، أن نتفرغ لواجباتنا
تجاه الشباب قليلا، ولنترك الشباب يتنفس قليلا، ليستعد لمرحلة قادمة سيكون هو
عنوانها شئنا أم أبينا، فإن أحسنا صناعة الجيل الشبابي اليوم، حق لنا أن نخاطبه
بما نشاء، ولكن بعد أن نزرع فيه الأمل ليكون مشكاة عمل.