ما حدث بين
تركيا وهولندا من أزمة متعددة الاتجاهات مؤخرا، طالت البعد السياسي والدبلوماسي وفتحت بعض ملفات التاريخ وبعض قضايا الواقع المرتبط بتوجهات
أوروبا وتخوفاتها وقضية اللاجئين ونحوها، فتح الباب على مصراعيه للحديث عن واقع أوروبا اليوم وواقع تركيا، في قراءة موضوعية نقدية بعيدة عن المغالاة والإفراط والتفريط.
تركيا اليوم دولة تعتز بالعديد مِن مقومات القوة، فالتعداد السكاني، ونسبة الشباب في المجتمع، والواقع الاقتصادي الناشط، والسياحة الآخذة بالازدهار، والعلاقات المتوسعة مع روسيا ودول متعددة في العالم العربي وأقصى آسيا، جعلت منها دولة ذات حضور ونفوذ كبير، لا سيما إذا أضفنا إلى ذلك كونها لا تزال عضوا في الناتو، ودولة ذات قدرات عسكرية ذاتية لا تخطئها العين.
ومع كل هذه المميزات التي تعيشها تركيا، إلا أن الملفات الإقليمية المتفجرة حولها، مثل الملف السوري والعراقي وملف القضية القبرصية التاريخية، إضافة إلى تكتيكات أمريكا وأوروبا في العداء لتركيا والرغبة بتقليم أظفارها ومنعها من لعب أدوار مركزية في قضايا المنطقة؛ من خلال دعم المتمردين الأكراد، جعل تركيا تعيش حالة من الإشكاليات متعددة الأوجه.
أزمة الليرة التركية في مقابل الدولار فقد أثرت بلا شك على الاقتصاد التركي، وعلى شكل وحجم الاستثمارات الخارجية، والتفجيرات والعمليات التخريبية التي استهدفت المدن التركية والمواقع السياحية والمركزية فيها تركت حالة من الضغط على القيادة التركية. وإذا أضفنا حالة انشغال تركيا بالاستفتاء على الدستور وملفات الداخل نعلم حجم التحدي أمامها داخليا وخارجيا.
أوروبا بالمقابل تعيش حالة من الاستقرار السياسي، ولديها آليات الاقتصاد الذاتي المستقل لديها عموما، ولكنها مع ذلك تقاسي من مرارة الوحدة المزعومة فيها، فالاتحاد الاوروبي منذ نشأته لم يستطع اتخاذ قرار موحد في أي شأن مصيري، وخروج بريطانيا من الاتحاد وتهديد دول أخرى بذلك، إضافة إلى تردي الواقع الاقتصادي في قطاعات واسعة من أوروبا على حساب ازدهار بعضها الآخر، أوجد حالة من التشتت بين هذه الدول والغيرة السياسية والتردد الدائم على مستوى التنسيق والتفاعل الثنائي والعام.
وفِي وقت تسيطر فيه ألمانيا وفرنسا على قرار الاتحاد الأوروبي سياسيا، وتدعهما النمسا وهولندا ودول مسيحية أخرى في عدائها التاريخي لتركيا، وعدائها المعاصر لحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا بقيادة
أردوغان، فإن هذه الأزمة السياسية بين تركيا وهولندا ستكون واضحة الأثر والسبب لدى المتابعين بصورة أكثر جلاء.
السؤال الأبرز هنا: هل مِن مصلحة تركيا أن تستمر بالخطاب التصعيدي الذي بدأه أردوغان بوصفه
هولندا بأنا دولة فاشية ومن بقايا النازية؟ أم عليها أن تنزل عن الشجرة قليلا وتتلاعب بحبال الدبلوماسية والسياسة لتحقيق أهدافها المطلوبة؟
مما لا شك فيه أن خطاب أردوغان الناري في الحشد الجماهيري في منطقة باغجيلار في اسطنبول، ووصفه لهولندا بهذه الأوصاف، وتهديده باتخاذ إجراءات دبلوماسية واقتصادية بحقها، جاء بسقف عال جدا، وهو أسلوب لم تتعود عليه أوروبا كلها. ولكن استمرارية هذا الخطاب وتعزيزه بإجراءات عقابية بحق هولندا سيكون له أثر عكسي، حيث ستتخذ هولندا بالمقابل خطوات لحماية ذاتها واقتصادها وصورتها الدولية، وليس بين يديها إلا حلفاؤها في الاتحاد الأوروبي، وهم متفقون ضمنا على كراهية الإسلام السياسي والعدالة والتنمية والنفوذ التركي وأردوغان، وهو ما سيوجد أرضية خصبة لعمل أوروبي مشترك ضد تركيا، ستكون له تداعيات حقيقية على واقعها الأمني والاقتصادي والسياسي ودورها ومكانتها العالمية.
خيارات تركيا هنا برأيي تتمثل بالذكاء السياسي فقط، فإذا تعاملت مع هذا الملف بحكمة استطاعت تجزئة القضية وحصرها في هولندا، والاستفادة منها بإرسال رسائل صامتة لكل دول العالم وعلى رأسها دول أوروبا الكبرى، ومن أبرز ما يمكن تقوم به هنا:
- عدم الجمع في الخطاب بين هولندا ودول أوروبا، وهو خطأ وقع فيه كثير من المحللين والاعلاميين الأتراك في أيام الحادثة، حيث ربطوا بين هولندا وألمانيا وفرنسا والنمسا وغيرها، بل وزاد بعضهم ان هذا موقف الاتحاد الأوروبي ونحوها من لغة خطاب إعلامي غير مدروس. وبدل أن يشتتوا جهد أوروبا، أعطوها ذريعة للتوحد في مواجهة تركيا واتخاذ إجراءات وحدوية ضدها.
- عدم ربط ما يجري بالعداء للإسلام أو حالة الإسلاموفوبيا المنتشرة في الغرب والتي يعتبرها اليمين المتطرف في أوروبا عقدة في المنشار، بل والابتعاد كل البعد عن استفزاز المتطرفين المتربصين في كل الدول الأوروبية والذين وصل كثير منهم لسدة الحكم بالفعل، لأن حقيقة ما جرى أمر سياسي تنظيمي تركي بحت.
- البدء بالعمل الدبلوماسي الخفي من خلال تفعيل دور السفراء في الاتحاد الأوروبي لمنع ارتدادات الأزمة وتفاعلها على مستويات أكبر، والضغط على كل الدول الأوروبية للالتزام بمعاييرها الذاتية بعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، وعدم العبث بالداخل التركي بصورة يتم الحوار فيها بين تركيا وبين دول أوروبا فرادى لا بشكل جماعي.
- بدء جملة من الحملات الدعائية والإعلامية الواضحة والقوية التي توضح تركيا مِن خلالها واقع ما يجري فيها من حراك ديمقراطي وتوجهات سياسية واقتصادية، وأن تشمل هذه الحملات كل البلاد الأوروبية بكل لغاتها، وبلغة إعلامية عقلانية معاصرة تبتعد عن العموميات واللغة المليئة بمدح الذات والتعالي على الآخر، لتكون هذه الحملات خطابا غير رسمي لشعوب وتيارات الفكر في كل أوروبا، لبداية ترسيم علاقة بنمط جديد وإيجابي معها جميعا.
- التعامل بعقلانية تامة مع هولندا، تحديدا بوصفها من بدأ الأمر، فتركيا داخليا استفادت جدا من هذه الحالة في تعزيز معسكر المؤيدين للتعديلات الدستورية، واستفادت سياسيا بالخطاب المرتفع لأردوغان وحكومته في ظل الأزمة، ولكن ذلك كاف دبلوماسيا، وزيادة التوتر مع هولندا والتصعيد معها يعني فتح جبهات أخرى تركيا في غنى عنها اليوم، لا سيما ونحن نتحدث عن حساسية أوروبية واضحة من العلاقات التركية الروسية الآخذة بالتعاظم.
التصريحات التي قادها وزير شؤون الاتحاد الاوروبي في تركيا أخيرا كانت غاية في القوة، حيث طالب فيها قيادة الاتحاد الاوروبي بضبط سلوك هولندا وحثها على مراجعة سياساتها، وهي خطوة تعزز من علاقات تركيا مع الاتحاد الاوروبي من جهة، وعزل هولندا ظاهريا عن نقاط قوتها.
أمر آخر مهم هنا، وبكل أسف تقع فيه تركيا مرارا، وهو الموقف اليتيم والفردي لها. فتركيا لديها حلفاء في العالم العربي، وهي بكل أسف لا تستفيد من هذه العلاقات في وقت
الأزمات دبلوماسيا، وبالطبع تشاركها بذلك الدول العربية. ففي وقت الأزمات الفعلية لم نتعود أن نرى موقفا موحدا يصدر من تركيا ودول عربية، كالسعودية وقطر ودول أخرى، حتى وإن بدت أقل تأثيرا في المشهد العام، ولكن صدور موقف تركي عربي موحد له دلالات كبرى على الموقف الأوروبي، وسيبدأون بتغيير منهجية تفكيرهم بعيدا عن الاستفراد والتعامل الثنائي.
وأخيرا، ربما يرى البعض أن ما جرى من أزمة بين الدولتين هنا هو حالة من العبث السياسي المؤقت، أو تكتيكا عابرا للضغط على تركيا، ولكنه بكل تأكيد مرحلة لها ما بعدها من تعامل الغرب كله مع تركيا، وما كانت دولة مثل هولندا لتأخذ هذا الموقف المتشدد بحق وزير الخارجية التركي ووزيرة شؤون المرأة لولا الضوء الأخضر من دول أوربا الكبرى، وهو ما يعني أن تفتح تركيا عيونها جيدا في تعاملاتها مع هذه الأزمة وتداعياتها وتفاعلاتها، وأن تستخدم كامل الحنكة السياسية في إدارة الأزمة في هذا الظرف الحساس.