عندما كانت لندن "مربط خيلنا" أيام الانتداب وزمن الهيمنة الإمبريالية البريطانية الغابرة، كان الجهد المركزي للنخبة
الفلسطينية التي أفرزتها المؤتمرات الوطنية الفلسطينية السبع في عشرينيات القرن الماضي منصبا على رفع "مظالم أهل فلسطين" إلى دوائر صنع القرار في البلاط الإمبراطوري (القصر، الحكومة، مجلس العموم.. إلخ).. لعل أحدا في تلك البلاد يحنّ ويشفق وينتصف لمبادئ الحق والعدل والحرية، خاصة وأن تلك النخبة الفلسطينية كانت تتوهم أن لا مشكلة مع سلطات الانتداب البريطاني، وأنه بالإمكان التفاهم معها. غير أن هذا المسار لم يعمّر طويلا؛ على عكس خلفه الذي قطع عشرات السنوات منذ 1947 حتى اليوم؛ لأن حقائق الواقع كانت تعانده، فجاءت صورة الشيخ عز الدين القسام (1935-1936) التي عسكت النقاش ووحّدت الرؤى، لتطوي بذلك صفحة طقوس "رفع المظالم" ولتوحّد العدو، ولتعتبر أن الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية إنما هما شيء واحد!!
باعتقادنا، أنه عندما قامت "الثورة الفلسطينيّة المعاصرة" بقيادة حركة
فتح عام 1965، إنما انطلقت من النقطة التي انتهى إليه منطق ثورة 1936-1939 في تشخيص وتعريف من هو العدو، وبالتالي تعريف الذات الوطنية. وإن كان من فضل في الحفاظ على هذا المنطق، فإنما يعود لموقف الحاج أمين الحسيني رحمه الله، والذي قاد الفلسطينيين زمن الانتداب. ورغم كل ما ينسب إليه من أخطاء في أدائه القيادي، لكن موقفه السياسي والوطني والقومي الصلب من حادثة اغتصاب وطنه، وميلاد "إسرائيل" على أنقاضه، ورفضه التعاطي مع كل مشاريع الحلول التسووية والتآمرية من قرار التقسيم إلى مشاريع التوطين إلى تجزئة الجسد الفلسطيني. وأضيف لهذا المنطق جميع البلاغة الثورية التي أتت بها حركات التحرر الوطني التي اتّسع انتشارها وسطوتها في مرحلة التخلص من الاستعمار القديم بعد الحرب العالمية الثانية، فضلا عن بلاغة الأيديولوجيات الثورية اليسارية والقومية على أنواعها، التي ازدهرت في تلك الحقبة.
ولكن سرعان ما انكفأ ذلك المنطق الثوري، في مدة ربما مشابهة للمدة التي انكفأ فيها عكسيا منطق "التظلّم الفلسطيني" أمام أعتاب الإمبراطورية البريطانية، خاصة عندما غدت نيويورك وواشنطن مربط خيلنا الجديد. ففي الوقت الذي عرف فيه منبر
الأمم المتحدة زعماء ثوريون قادمون بحماسة ورؤى ومبادئ وتطلعات ثورية كـ"ماوسي تونغ"، و"فيدل كاسترو"، و"أحمد بن بيللا"، و"سيكوتوري"، و"غاندي..."، فقد كان أول من برز لنا في الأمم المتحدة مخاتلا وثلما، ولا يملك عزم البدايات ولا عزم ثوريي تلك المرحلة، عندما تم إشهار غصن الزيتون عام 1947، والذي قبضنا ثمنه مقعدا هزيلا (كمراقب في نادي الدول) وبعدها أخذت المتوالية تدور، ومن يومها لم يكن للسياسة الفلسطينية الرسمية إلا مسارا إجباريا يسير باتجاه واحد ووحيد، وهو المسار التسووي، الذي انتهى بنا على مقولات "الحياة المفاوضات"، وأنّ "المفاوضات خيار استراتيجي"، وأنّها "الأسلوب الوحيد" الذي لا حيدة عنه للوصول إلى حقوقنا... إلخ.
من الملاحظ أن المشاركة الرسمية الفلسطينية في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، اكتسبت في محطات فارقة صفة شعبوية، خاصة إذا ما كانت الإعلانات الفلسطينية مقصودة لإشهار مواقف تنازلية يراد لها أن تقدم وتعرض بشكل علني وواضح وصريح، لتحفر عميقا في الوعي والسيكولوجيا وإشهاد العالم!! حدث ذلك في العام 1974، وأنكى منه في العام 1988 عندما قدمت التنازلات الفلسطينية الأفدح، وكسر ياسر عرفات يومها في جنيف، علنا، ما كان يعتقده الفلسطينيون كمحرّمات!! ولم تكن المصيبة يومها بأن تلك التنازلات قدمت مجانا و بلا ثمن، فقط، بل إّن "البهدلة" والإذلال لحق حتى بالشكل والإطار وأريق ماء الوجه بين الأمم!! يومها رفضت أمريكا منح عرفات مجرّد تأشيرة للحضور إلى مقر الأمم المتحدة في نيويورك، فسعت بعض الدول العاطفة مع الفلسطينيين إلى نقل الاجتماع إلى مقر عصبة الأمم في جنيف. وعندما ألقى ياسر عرفات كلمته، كانت قد أرسلت الولايات المتحدة جنرالا للتدقيق في أقوال عرفات إذا ما كنت تطابق الشروط الأمريكية أم لا، وعندما وجد ذلك الجنرال أن الخطاب لا يتطابق بحرفيّته مع التوجيهات الأمريكية، وأن صيغة الاعتراف جاءت فضفاضة، انسحب من القاعة، وطلب من عرفات، إذا ما أراد نيل الرضى وجواز المرور الأمريكي، أن يتلفّظ بجمل وكلمات بعينها باللغتين الإنجليزية والعربية، فإذا ما تلفّظ حرفيا بما طُلب منه، فسينظرون حينها في إمكانية فتح حوار مع المنظمة عبر سفير أمريكا في تونس. وهذا ما تمّ بحذافيره، كما ينقله كاتب خطابات عرفات ومستشاره الإعلامي، "أحمد عبد الرحمن"، في مذكراته.
مع الوصول إلى مرحلة الإفلاس التفاوضي ونفض اليد فلسطينيا من المفاوضات المباشرة مع إسرائيل، منذ قدوم نتنياهو إلى الحكم عام 2009، بات الجهد الفلسطيني منصبّا وبأثر رجعيّ، وبنوع من إعادة الاعتبار، على منبر الأمم المتحدة؛ في محاولة لتدويل كل ما يمكن تدويله من جوانب القضية الفلسطينية. ومنذ عام 2011، عندما تم التوجّه لمجلس الأمن الدولي والتقدم بطلب قبول فلسطين كدولة عضو في الأمم المتحدة، غدا خطاب أبي مازن السنوي في الأمم المتحدة يشار إليه ويسوّق رسميا على أنه محطة فارقة تحمل رسالة فلسطين إلى العالم، وإلى الأطراف ذات العلاقة بالملف الفلسطيني. وهنا يمكن تسجيل عدة نقاط وملاحظات على خطابات أبي مازن الأممية:
أصبح يروّج قبيل كل خطاب بدعاية خاصة، على أنه ينطوي على أهمية استثنائية تحمل الإقدام على إعلان سياسي دراماتيكي!! وتبرّع بعض المسؤولين والإعلام الرسمي بتسريبات لتضفي هالة وترقبا لما سوف يقال. وفي النسخة الأخيرة، وجدنا حركة فتح ومؤسّسات السلطة الرسمية تتجنّد لإظهار تأييد شعبي على طريقة الأنظمة البوليسية في العالم الثالث، والتي تعاني فقرا حادا في شرعيتها، تضطر لتخرج طلاب المدارس وموظفي القطاع العام إلى الشوارع؛ لإظهار نوع من الدعم الشعبي المرتجى والمطلوب لإكمال المشهد السياسي المنشود.
كان أحد أهمّ نتائج مرحلة أوسلو، غياب السياسة، وغياب النقاش، وهو ما كانت تنهض به سابقا مناقشات المجالس الوطنية المتعاقبة، حيث كانت تشيع نقاشاتها ثمّ قراراتها نوعا من السّجال والحيوية؛ يستمران في التفاعل لزمن متطاول. والحقيقة أن
محمود عباس ضرب رقما قياسيا في احتكار السياسة والشأن العام، وأظهر ضيقا بالحريات العامة والتعبير عن الرأي، وساد التخويف البوليسي من قبل أجهزته الأمنية. فهنا لا نقاشات حقيقية ولا ما يحزنون، لذلك وصل الأمر إلى أن يتمّ تقديم خطاب أبي مازن داخليا ووطنيا على أنه "البرنامج السياسي" للفلسطينيين. وهناك من يخبرنا بأن جهدا فكريا وبلاغيا وسياسيا وقانونيا بذل في كتاباته. وعند التدقيق في خطابات أبو مازن، سنجدها تتناول رؤاه وتصوّراته الشخصية، التي هي في أحسن الأحوال تعكس وجهة نظر لتيار في حركة فتح. وقد بلغت هذه الرؤى دركات من العجز والإفلاس، وكشف الخطاب الأخير، وردود الفعل الناقدة من فصائل ومجموعات ومثقفين، كم يعيش الرجل في عزلة عن بيئته الفلسطينية، حيث أجمعت تلك الردود الناقدة على القول: لا ليس باسمنا، خاصة وهو يعيد إهانة الفلسطينيين بترديد قناعاته الانهزامية حول فكرة المقاومة والنضال وتسخيفها وإظهارها عديمة الجدوى، بل يعتبرها سبب جلب المتاعب للفلسطينيين.
بلغ البؤس بمنطق أبو مازن "اللاعنفي" إلى درجة أن دعا في خطابه الأخير ليس إلى سحب السلاح النووي فقط، بل وسحب السلاح التقليدي أيضا من العالم!! المشكلة في هذا النوع من "العقلانية المفرطة" أنها لا تصدر عن فيلسوف سياسي، أو داعية لا عنف، كغاندي مارس مقاومة لا عنفية مشهودة، فالجميع يعرف أن أبا مازن لم ينزل يوما لا في مسيرة ولا مظاهرة ولا في شارع، فهو لا يؤمن حتى بالمقاومة الشعبية التي يضطر لأن يلوكها بلسانه من أجل مقتضيات العلاقات العامة الفلسطينية، فقد قال متفاخرا قبل سنوات في إحدى تجليّاته، في خطاب علني، أنه لم يشارك - معاذ الله - في حياته ولو في مسيرة أو مظاهرة واحدة. واستطرادا، أصبح من المعروف لماذا تخرج جماهير قطاع غزة بعشرات الآلاف أسبوعيا في مسيرات العودة، رغم أنه لا توجد نقاط احتكاك لا مع كتل استطيانيّة، ولا طرق التفافية، ولا معسكرات ونقاط تفتيش للجيش، كما هو الحال في الضفة الغربية، في حين أن هذه الأخيرة (الضفة الغربية) تبدو تحت حكم عباس البوليسي خانعة ومنخرسة ومتحكما بحركتها وضبطها. ألم يتباهى محمود عباس قبل سنوات في لقائه التلفزيوني مع أحد المذيعين اللبنانيين بأنه نجح في ترويض الفلسطينيين. في الحقيقة، إن مجرّد تصوّر خروج آلاف الناس في الشارع في الضفة الغربية لأي سبب من الأسباب هو من محظورات الحالة البوليسية التي يقلقها مثل هذا الحضور الشعبي، فهي من الهشاشة وعدم الثقة بالنفس ما يجعلها تخاف شعبها؛ مثل كل الديكتاتوريات الاستبدادية التي رأينا نسخها في الربيع العربي. وينبغي أن يرى هذا المشهد الفلسطيني من لا يزال يتحفنا بتحليلاته العرقوبيّة حول "مساواة الفشل" بين نموذج رام الله التفاوضي ونموذج غزة المقاوم.
في ذروة من ذرى الإفلاس، وقف أبو مازن في العام الماضي مخاطبا ممثلي الدول والأمم، وتملؤه الحيرة والقنوط، بعد أن قدم مرافعة حول مسار المفاوضات البائس وأن سلطته بلا سلطة.. جأر وقال: إلى من نشكو؟ إلى أين نذهب؟.. ظهر كتائه فاقد للدليل، وليس كزعيم شعب (ولا أريد أن أقول كزعيم لحركة التحرر الفلسطينية) يعرف هدفه ومساره ودربه، ويسعى لتجنيد كل الطاقات والإمكانيات والعلاقات لخدمة ذلك الهدف والمسار. لعل أحدا من الدائرة الضيقة من مستشاريه لفت انتباهه أن يرفع شكواه إلى الله، وها ما فعله هذا العام - والحمد الله - ولكن الله يأمرنا بالأخذ بالأسباب والبناء عليها ومراكمتها، ويعتبر التقصير في ذلك كإثم وتجاوز، وينهى الله عن أن نقول ما لا نفعل، ويطالب الله المؤمنين بالإعداد والاستعداد للعدّ والأخذ بأسباب القوة: "وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة.." والمشكلة أن عقيدة أبو مازن و"عقلانيته" تزدري كلمة القوة وتستمتع بالضعف؛ إلى درجة وصف فيها أوباما ذات يوم أن "أبا مازن من الضعف بمكان، وإن نتنياهو من القوة بمكان". ويعلم كل مشتغل بالسياسة في هذا العالم أنه ليس هناك مكان للضعفاء، كما صرح بذلك نتنياهو قبل أسابيع، وهو يسجل ما غدت عليه "عضلات" غزة، واستخدم عبارة "تبادل اللكمات" في تشخيصه لحالة التصعيد. والجميع يعرف أن كل الجلبة الدبلوماسية المستمرة منذ آذار/ مارس الماضي المتعلقة بالنظر في أوضاع غزة؛ لم يحركها سوى الفعل النضالي والمتمثل بمسيرات العودة.
إن حصرية صنع السياسة والفعل والنضال الفلسطيني بالجهود الكلامية فقط، حسب مدرسة أبو مازن، يعيد للأذهان انسحاب الفعل الفلسطيني (الرسمي) إلى سياسية "رفع التظلّمات" والتشكّي، والاكتفاء بالبلاغة البيانية على أعتاب الأمم المتحدة. ويعتبر الفعل الكلامي لدى أبو مازن ودراسته، وبغض النظر عن درجة جدارته الإقناعية هو الفعل "الوحيد" الممكن. والحقيقة، أن المدقق في ما يكرسه منطق أبي مازن من عجز وقلة حيلة وانغلاقه أمام آفاق "الفعل"، هو عكس ما توفرت عليه نخبة عشرينيات القرن الماضي التي كانت مفتوحة على الفعل الثوري، فتثوّرت مع أحداث 1936، بعد أن يئست من الوعود الكاذبة والخادعة، في حين أن اتجاه تطور خط أبي مازن هو أميل إلى الانسحاب إلى موقف المعارضة النشاشيبية (التي كان موقفها الفعلي متواطئا مع مشاريع الانتداب البريطاني والحركة الصهيونيّة)؛ لأنّ "أبو مازن" منفتح على التنسيق الأمني مع العدو ومع الأمريكان ومنسحب بالكليّة عن مفردات "ثار"، و"يثور"، و"ثورة".
أما عن حجم الاهتراء البنيويّ في خطابات أبو مازن، فقد ظهر في خطابه الأخير الذي بدا فيه كأنما يحادث نفسه، ويصدّر تحذيرات غدت فاقدة المصداقية. فهو يسهب في شرح كيف أن إسرائيل تحللت من التزاماتها وتعاقداتها الأوسلوية، ثم يعود ليقول: إذا لم تعد إسرائيل لالتزاماتها - وهي كما يقول غير ملتزمة - فسوف يكون في حلِّ من أمره إذا ما قرر الانسحاب من الالتزامات هو الآخر. ولعل ما أسوأ ما اتسمت به السياسة الفلسطينية الرسمية من عقود خلت هو "فقدان المصداقية"، ولعلنا سنتذكر أن عباس كان يعرض نفسه باستمرار بأنه صاحب مصداقيّة على عكس من سبقه، ولكن عوامل التعرية والتآكل طالت، بعد سني حكم أبي مازن التي استطالت، ما تبقى من مصداقيته ومن ماء وجهه.