كان
السؤال الملِحّ أمام جميع المقاومين
الفلسطينيين وتنظيماتهم وفصائلهم المقاتلة منذ
العام 1967 هو: كيف يمكن إيجاد حالة
مقاومة مسلحة قابلة للديمومة والاستمرارية وعدم
الانقطاع في ظروف الأراضي المحتلة؟
في الإجابة
عن هذا السؤال، حاولت التنظيمات الفدائية في بداية عملها وانطلاقتها استعارة خبرات
لحالات ثورية عالمية، فكان هناك عمل كبير على إمكانية نقل تلك الخبرات ومحاولة تبْيئتها
في الواقع الفلسطيني الناشئ بعد حرب 1967، فعرفت آنذاك مفاهيم وتطبيقات لما يسمى بالقاعدة
الآمنة أو قواعد الارتكاز، وامتداد ذلك لمفهوم "حرب الشعب" أو نظرية
"الشعلة Lacosta" في التجربة الكوبية، ولكنها تلك المحاولات لقيت فشلاً ذريعاً،
ولم يصمد منها شيء يُعتدّ به سوى من تجربة قطاع غزة التي استمرت للعام 1975، والتي
كان لها سياقاتها المحلية الصرفة وهو ما منحها بعض الاستمرارية.
في اعتقادنا
أن انتفاضة 1987 ما كانت لتحدث لولا بلوغ "الشرط الديموغرافي" نصابه
(١.٥ مليون نسمة في الضفة والقطاع آنذاك) والشرط الديموغرافي هنا هو "شرط ثوري"
في الحالة الفلسطينية، فنحن هنا مع جغرافيا معاندة من حيث إمكانية اتخاذها متكئاً وسنداً
وعاملاً مؤاتياً وحاضناً لمقاومة ناجحة، فغالباً ما لعبت العوامل الجغرافية المؤاتية
دوراً مساعداً -إن لم يكن حاسماً- في الجهد القتالي لحركات التحرر، ففي أفغانستان واليمن
والجزائر وحتى كوبا، وجدنا الجبال تقاتل مع ثوارها، وفي فيتنام وجدنا الغابات والمستنقعات
ومساقط المياه والأنهار، من أهم العناصر القتالية المؤاتية، لكن في ظروف كالضفة الغربية
التي لا يزيد ارتفاع تلالها الجبلية عن ألف متر، والتي نجحت الخبرة الاستعمارية الصهيونية
وبما تملكه من تكنولوجيا متطورة، فضلاً عن تسخيرها للعنصر البشري العميل أو الوكيل
في إحكام السيطرة والاستحواذ على المكان لدرجة تبدو فيه حركة المقاومة وكأنها حركة
داخل المقلى!
إذا
كان هذا هو الحال في الضفة الغربية ذات الطبيعة الجبلية، فالحال مع قطاع غزة من هذه
الناحية الطبوغرافية والجغرافية أسوأ بكثير، فنحن هنا مع شريط سهل ساحلي صغير ومحشور
وتبدو فيه الطبيعة الجغرافية أشد فقرأ وأكثر معاندة لأي نوع من أنواع المقاومة.
والحقيقة
أن تجربة المقاومة في قطاع غزه بعد العام 1948 تبرهن على أن "الديموغرافيا"
هي الشرط الثوري الضروري الذي بدونه لن تكون هناك مقاومة، لأن مراجعة بسيطة لتاريخ
منطقة قطاع غزة، سنكتشف أنه لم يكن لديها كبير مساهمة في ثورة 1936 مثلاً، ولكن بعد
ما غدا الإقليم المسمّى "قطاع غزة" بعد 1948، والذي غدا فيه اللاجئون ينوفون
عن 70% من سكانه، وأصبح مكتظاً وكأنه مخيم لاجئين كبير، فإن الديموغرافيا هنا لعبت
دورها الحاسم خاصة في بيئة ومجتمع تتوفر فيه ميكانيزمات التضامن الجماعي بنسب عالية،
وأخذت تتألف معها طيلة الوقت "إدارة" كفاحية وجهادية عالية، وأخذت الديموغرافيا
هنا مع ازديادها وسماكتها عبر الزمن من الناحية الفنية والميدانية الصرفة تأخذ دور
الجبال والغابات والمستنقعات والعوامل الجغرافية الأخرى التي حظيت بها حركات تحرر وطني
في هذا العالم.
في اعتقادنا أن انتفاضة 1987 ما كانت لتحدث لولا بلوغ "الشرط الديموغرافي" نصابه (١.٥ مليون نسمة في الضفة والقطاع آنذاك) والشرط الديموغرافي هنا هو "شرط ثوري" في الحالة الفلسطينية،
وإذا
كانت الديموغرافيا الغزّية ذات المضمون النضالي والاجتماعي الفاعل الذي يعبر عنه جهد
مقاومي أهلها الصلب والعنيد؛ هي سبب من أسباب فشل محاولات
الاحتلال المتكررة في اقتحام
مدن ومخيمات القطاع والعودة للسيطرة عليها منذ محاولات 2002، ومروراً بحروب غزة المتتالية
من جهة، وهو العامل الذي أتاح لأول مرة أيضًا فرصة ميلاد "الملاذ الآمن"
داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة والواقعة بالكامل في أحشاء الاحتلال وفضاء سيطرته
الداخلية، والسؤال هنا: هل يمكن سحب الحالة في قطاع غزة على الضفة الغربية؟ أو بمعنى
آخر: هل بلغ النصاب الديموغرافي في مناطق الضفة الغربية "شرطه الثوري" المطلوب؟!
في الحقيقة،
لقد كان الجواب الإيجابي ناضجاً منذ انتفاضة السكاكين في 2015- 2016! رغم أن الضفة
الغربية غير متصلة ديموغرافيًّا كقطاع غزة، إذ هناك فجوات بين مدنها، وإن أخذت تضيق
مع التوسع السكاني الريفي من جهة، بالإضافة للتوسع الاستيطاني المهول من جهة أخرى،
وهنا ومع تزايد معدلات الولادة، تزايد عدد سكان الضفة الغربية منذ عام 1967 قرابة خمس
مرات (من 600 ألف إلى 3 مليون) وأصبحت لدينا كثافة سكانيّة معتبرة في هذه المدينة أو
تلك، فمدينتيْ
نابلس والخليل مثلًا، وهما المدينتان الأهم واللتان حافظتا -نسبيًا-
على تواصل أجيالها وعائلاتها منذ مئات السنين، ويكاد يبلغ عدد سكان كل منهما مع محيطهما
الريفيّ القريب الذي أصبح متصلًا معهما بصورة مباشرة، لا يقل تعداده الحضري عن نصف
مليون فأكثر، ونعتقد أن هذه الكتلة البشرية قادرة على حَمل نفسها في حال تعرضت لحصار
كحصار قطاع غزة، ونحن هنا نرشّح مدينة نابلس لأسباب كثيرة لتُنجز ملاذها الآمن، وفي
حال أنجزته سيكون من السهل تخيّل لحاق بقية المدن والأرياف بسرعة كأحجار الدومينو،
ولكن حتى يتم نجاح ذلك، فإنه يحتاج إلى شروط نضالية وجهادية وميدانية وسياسية نُجملها
في ما يلي:
ينبغي
على أجسام المقاومة الحالية الناشئة في شمال الضفة الغربية توحيد طاقاتها وتركيزها
في نابلس لإنجاح النموذج، وتطوير أدائها ومغادرة الحالة الاستعراضية، والقدرة على تطوير
وسائل العمل السري البعيد عن الظهور والانكشاف ومراكمته وزيادة وتائره، في زمن تكثفت
فيه وسائل العمل العلني الكاشف.
ينبغي
أن يتطوّر العمل بحيث يتم تدفيع الاحتلال ثمنًا جسيمًا في كلّ اقتحام من اقتحاماته،
بحيث يعود وفي كل مرة يحمل قتلاه وجرحاه، كما ينبغي تعميم مواجهته في كل أحياء وأطراف
المدينة على امتدادها الديموغرافي وعدم التركّز في البلدة القديمة، ومع تكرار وقوع
الخسائر في صفوف الاحتلال، فإنه سيفعل ما يفعله المستعمرون بالعادة، وبالأخص كما برهنت
التجربة على ما فعله هو تحديداً كما حصل في جنوب لبنان وفي قطاع غزة؛ فسوف يأخذ قراره
في المرابطة على أطراف ومداخل المدينة -في مرحلة أولى- بعد أن يصبح دخولها متعذرًا
عليه، ونعلم أنّ هذه عملية صعبة وتحتاج إلى جَلَد وصبر و"فتّ عدس"، لكنها
إن صادفت تصميمًا وعنادًا ومثابرةً وانضباطًا فإنها مضمونة النجاح.
ينبغي أن يتطوّر العمل بحيث يتم تدفيع الاحتلال ثمنًا جسيمًا في كلّ اقتحام من اقتحاماته، بحيث يعود وفي كل مرة يحمل قتلاه وجرحاه،
إسقاط
السلطة ومؤسساتها داخل المدينة، أو تغيير وظيفتها: فالسلطة الفلسطينية هي عنصر التآكل
الذاتي وعلّة علل إفشال أي عمل منظم أو ظاهرة مقاوماتية، خاصة بعدما فقدت هذه السلطة
نفسها -في خط عملها الرئيسي- لمحاربة المقاومة، وجعل ذلك سبباً لوجودها، والحقيقة أن
ما يسمى "الأمن السياسي" المبثوث في كل أجهزة أمن السلطة ليس له تعريف آخر
غير أنه "شاباك". وكانت مهمة أجهزة الأمن الفلسطينية المتكاثرة هي تدويخ
الكتلة الديموغرافية الفلسطينية في الضفة الغربية وترويضها وتقويض أي تطلع أو جهد تحرري،
ولكن ينبغي الانتباه جيداً في حال نضج ظرف إسقاط هذه السلطة أن يتم الأمر بأقل احتكاك
داخلي ممكن، بالإضافة إلى ضرورة وجود هيئة محلية حكيمة لإدارة شؤون المدينة وقيامها
بتوفير حياة اقتصادية وتجارية واجتماعية، وينبغي هنا استمالة الجهات التي لا تزال تمثل
بُعْد "التحرر الوطني" في حركة التحرر الوطني الفلسطيني "فتح"،
خاصّة أن قطاعًا واسعًا منها لم يعد له علاقة بالتحرر الوطني بل هو "عبء وطني".