تعتبر كلمة "انتصار" جدّ عزيزة بالنسبة لشعب وأمّة منوا على مدى تاريخهم الحديث والمعاصر بهزائم.. هزائم ثقيلة ومعقدة ومدويّة، لدرجة أننا وُصمنا كأمّة بعد هزيمة 1967 (التي لم تكن غير فضيحة) بأننا أمّة غير مقاتلة!
وعندما انطلقت الثورة الفلسطينية التي قادتها حركة فتح، رفعت أحد أهم شعاراتها، شعارها الأثير: "ثورة حتى النصر"، الذي كانت تذيّل كافة البيانات والنشرات والإعلانات السياسية، أي أن فعل الثورة والنضال والكفاح في أدبيات فتح هو التعليق المنسوب لياسر عرفات على مقولة جمال عبد الناصر بأن: حركة فتح هي أنبل ظاهرة عربية وأنها وجدت لتبقى! والتي أضاف عرفات عليها: "ولتنتصر أيضًا"!
وعند فحص مصداقية هذا الشعار سنجده أنه كان كغيره شعارًا "ميكروفونيًا" لأغراض الاستهلاك الخطابي. فقد توقف هذا الفعل الثوري في محطات عديدة منذ الخروج من بيروت عام 1982، ومروًا بمحطة أوسلو عام 1993 أما البيات الطويل الذي أصابه فكان منذ تولي محمود عباس رئاسة حركة فتح (ورئاسة المنظمة والسلطة أيضًا). وطيلة هذه المسيرة التراجعية تم اعتناق مسار التفاوض والتسوية الذي لم يوصلنا إلى نصر ولا ما يحزنون! بل خيبة تَرِثُ خيبة.
وكانت الترجمة السياسية لهذه الحالة المنكفئة غير الظافرة ولا المنتصرة، بل المعترفة بقلّة الحيلة والعجز عن تحقيق الانتصار؛ هو اللهاث وراء حلول سياسية عرقوبية من طراز "دولة 67" و"حلّا لدولتين" والتي وضعت صياغاتها وإخراجها في جوّ احتفالي وانتصاري كاذب، كما حصل عندما تمّ الإعلان المهرجاني في الجزائر عن إقامة دولة فلسطين العتيدة في المجلس الوطني الفلسطيني التاسع عشر في 15/11/1988.
منذ عام 1948 لم يسجّل الفلسطينيون ولا العرب أي انتصار يمكن أن نعتبره "انتصارًا كبيرًا"، مع أنهم يشبعونك عن انتصاراتهم الوهمية "والمعنوية". طبعًا هناك من يعتبر عبور قناة السويس ونتائج حرب 1973 انتصارًا، ولكن بعدما تكشّفت حقائق السياسة والدبلوماسية صحوْنا على أن تلك الحرب، لم تكن سو "حرب تحريك" من تدبير ثعلب السياسة الأميركية اليهودية "هنري كيسنجر"، والتي كانت تقصد ما حقّقته لاحقًا ممثلا مسيرة السلام والتطبيع بين مصر و"إسرائيل" بتوقيع معاهدة كامب ديفيد، وبهذا كان إخراج مصر من دائرة الصراع خسارة كبرى صافية لجبهة العرب في صراعهم مع الصهيونية، أما على صعيد الداخل المصري؛ اقتصادًا وتنمية وواقعًا واجتماعيًا وسياسيًّا فالخسارات التي اتّكأت أكثر من أن تعدّ أو تحصى. ومثل ذلك يمكن أن يُقال عن الانتفاضة الموؤودة التي اتّكأت عليها القيادة الرسمية الفلسطينية لتتخذ منها "عامل تحريك" لتنجز لها أوسلو الذي أصبح الكارثة والعقوبة الأنكى التي حلّت بالفلسطينيين.
في الحقيقة كان هناك انتصاران "أرضيان" على العدو الصهيوني، لهما مغزى: انتصار المقاومة الإسلامية في
لبنان ونجاحها في تصفية الوجود
الاحتلال في جنوب لبنان عام 2000، ثم نجاح
المقاومة الفلسطينية التي يتصدّرها الإسلاميون في قطاع
غزة في إخراج الوجود الاستيطاني والعسكري الاحتلالي من على التراب الفلسطيني لأول مرة في عام 2005، وقيامها بتشييد ملاذها الآمن، ويُضاف لهذين الانتصارين المميزين؛ معارك الصمود التي أثبتت جدارة و"نديّة" ومراكمة قوة في حروب 2006، و2008-2009، و2012، و2014، و2021.
لقد فعلت الحروب الخمسة على قطاع غزة وعلى لبنان، فعلها مع مرور السنين في بناء العضلات وتطوير الخبرات، أو "بناء قاعدة مقاومة جبّارة"
ولقد قلنا بعد انتهاء معركة 2014 التي استمرّت (51) يومًا، بأن أي مواجهة قادمة مع العدو الصهيوني سوف تُسفر في أقل التقديرات عن تصدّع في صورة الكيان وبنيته العسكرية والمجتمعية، وهذا ما برهنت عليه مواجهة "سيف القدس" المجيدة وعظيمة الدلالات وقصيرة الأيام في أيار/ مايو 2021، والتي أعادت الصراع إلى منطلقاته الأساسية، فانبعث النضال الفلسطيني في ساحات الداخل المحتل الثلاث: (
الضفة، غزة، وبالأخص منطقة 1948). وكانت وتائر هذا النضال المتجدّد تنطوي على إمكانية تفجير ساحات النضال والجهاد في المحيط العربي والإسلامي لو استمرت المعركة في حينه لأيام معدودات فقط.
ولكن مع كل هذه الانتصارات المميزة؛ والتي لها مغزاها ولها ما بعدها، فإنها لغاية الآن لم تسجّل بعد (انتصارها الكبير) الذي يعني إحداث فارق استراتيجي في وضعية الكيان الصهيوني العسكرية والقانونية والوجودية.
لقد فعلت
الحروب الخمسة على قطاع غزة وعلى لبنان، فعلها مع مرور السنين في بناء العضلات وتطوير الخبرات، أو "بناء قاعدة مقاومة جبّارة"؛ حسب الأستاذ منير شفيق، وهو من أهم المراقبين الاستراتيجيين الفلسطينيين، وغدا تطور هذه المقاومة يسير باتجاه متصاعد "لا ينكره إلا جاحد"؛ حسب تعبير الأستاذ معين الطاهر (الذي سبق وترأس كتيبة الجرمق في جنوب لبنان أيام العمل الفدائي). وأصبحت حالة المقاومة التي بدأت بالحجر والمولوتوف والسكّين متدحرجة ومتطورة ومفتوحة على إمكانية "التحرير" وليس مجرد ممارسة المقاومة. وغدا الخطاب السياسي الذي تشيعه خطابات وتصريحات قيادات المقاومة ووسائل إعلامها وتعبئتها تتحدث عن مفهوم "وعد الآخرة"، بمعنى إنجاز التحرير النهائي. فمقاومة غزة لم تعد – كما يتصور البعض – حبيسة قضايا غزة وأزقتها، بل هي اليوم تتصدى للرد على التعديات الجسمية على كل من الأقصى، والأسرى، فضلًا عن التصدي لأي فعل احتلال يستبيح الدم الفلسطيني.
أما المقاومة اللبنانية، وهي آخر العرب الذين قاتلوا "إسرائيل"، فمنذ عام 2008، وهي تتحدث عن أن أي مواجهة قادمة ستتضمّن أمرين؛ الأول أنها سوف تحتل مساحات في الجليل، والثاني أن قرار مجلس الأمن الدولي المتعلق بالصراع مع العدو الصهيوني سيقوم لبنان هذه المرة بصياغته. والغريب أن القيادة الرسمية الفلسطينية لم تذهب لمحادثة حزب الله فيما يقوله، بل هي كما يبدو غير مكترثة، ولا تحمل تصريحاته محمل الجد، إن لم تعتبر غير ذي صلة.
والسؤال هنا: ماذا لو تمكّنت المقاومة الفلسطينية ومعها الشعوب العربية والإسلامية من تحقيق انتصار فعلي وحاسم وكبير في المواجهة القادمة، وتمكنّت من تحرير "أراضٍ" فلسطينية مما كنا نسمّيه "الوطن السليب" في الجليل أو النقب أو السهل الساحلي؟!
عندها، أي عند وقوع هذا الانتصار الكبير، لن نكون بحاجة إلى كل مشاريع التكيّف مع الهزائم. وأخصها مشروع حلّ الدولتين أو "دولة 67" الاستجدائي، لأنه عند تحقيق انتصار كبير، فإن أمورا كثيرة ينبغي أن يُعاد ترتيبها؛ ليس فقط في الساحة الفلسطينية. بل إن تداعيات مثل هكذا انتصار هي من النوع العلائقي الذي يطال في أقله تغيير الخرائط الجيوسياسية في أربع دول في بلاد الشام. ولذلك على قوى "التحرير" ألا يتوقف برنامجها عند حدود الفعل الأرضي، وإنما ينبغي أن ترسم وتقترح مسارات سياسية تفتح أملًا جديدًا، وينبغي هنا أيضًا فتح حوارات مع شتّى القوى السياسية والمدنية والطائفية في أقاليم الشام الأربعة، ولا بأس أن يمتدّ الحوار ليشمل الدولة الموجودة وأحزابها الحاكمة والقوى التي تمثل "الدولة العميقة" من جيش وقوى جهوية وقبلية وتشكيلات اجتماعية مختلفة، مع أن أقاليم الشام الأربعة باستثناء الأردن تعيش دولها حالة خلخلة ورخاوة وضعف الدولة المركزية. وينبغي لتلك الحوارات أن تنتهي بمواثيق وتحالفات وإعلانات سياسية تبدأ ثنائية أو ثلاثية ثم تأخذ بالاتساع والاتساع لتشكل أوسع دائرة ممكنة من مكونات المنطقة.
وإن من مقتضيات هذه المرحلة الإرهاصية، تنظيف الطاولة من مخلّفات مرحلة الهزائم، والإعلان الصريح بالتخلّي عن كل مشاريع التسوية السابقة التي كانت تعكس أقصى ما كان يرجوه المهزومون، وبالأخص التخلّي عن هدف إقامة "دولة 67" التصفوي وسحبه من التداول السياسي الذي لن يكون له مكان عند حدوث الانتصار الكبير.