كانت
المظاهرات مفاجئة، في وقت عنت في الوجوه للبشير، فلم تعد تسمع حتى همساً!
فقد
بدت الأمور قبضته، وذلك منذ سنوات طويلة من الانقلاب العسكري على المسار الديمقراطي وعلى الديمقراطية الوليدة في
السودان، وهو الانقلاب الذي رعاه المفكر الراحل الدكتور حسن الترابي، قبل أن ينقلب السحر على الساحر، ويذهب الرجل بعيداً في تفسيره للأمر، بأنها العقيدة العسكرية التي هى أكثر قوة مما عداه من عقائد. ولم يكن ما توصل إليه صحيحاً أو دقيقاً، وهو الذي جمع بين فكر رائق وعمل على الأرض سيئاً، عسى الله أن يتوب عليه!
اعتقد الترابي أن خلف
تحالف العسكريين ضده، وهو الأب الروحي لهم، "العقيدة العسكرية" التي جمعتهم.. فاته أنها سنة الانقلابات العسكرية، التي تأكل نفسها كما تأكل النار الحطب، وإذ بدأت به وهو المدني، فقد صار العسكريون بأسهم بينهم شديدا. وشاهدنا حركة ضباط الجيش في مصر، وقد ظل العسكر يصفي بعضهم بعضاً، إلى أن بقي عبد الناصر وحده، على جثث رفاقه، حتى رُفعت له علامات، فلما علا مات!
إنها سنة الانقلابات العسكرية، التي تأكل نفسها كما تأكل النار الحطب، وإذ بدأت به وهو المدني، فقد صار العسكريون بأسهم بينهم شديدا
منذ سنوات حكمه، لم يثبت عمر
البشير ومن معه جدارتهم بحكم السودان، لقد انتقلوا به من فشل إلى فشل، حتى عاش الشعب أسوأ أيامه في العصر الحديث بسببهم، وفي فقر مدقع بسبب سوء الحكم وحكم السوء. لكن في المقابل، فإن النخبة السياسية كانت في حالة إنهاك كامل، فلا تملك القدرة على الاعتراض، أو جمع الشعب حولها. وفي المقابل أيضاً، بدا الشعب السوداني أمام آلة القمع الجبارة؛ في حالة استسلام كامل، وهي الحالة التي دفعته للتصرف كما لو كان غير معني بشيء، ليكون البشير هو أول حاكم عربي
يبادر بزيارة قاتل وسفاح، هو بشار الأسد، وبدون أن يجد نفسه مضطرا لإعلان السبب وراء هذه الزيارة التي استفزت كل كائن حي، فمن يقدر على البشير؟!
قبل هذا، كان قد عقد العزم على
تعديل الدستور، ليخلد في الحكم،
وليحكم مدى الحياة. وبدا الأمر "نزهة برية"، لا ينقصها إلا الإجراءات الشكلية ليفرغ منها، ويضمن بقاء أبدياً.. فمن يقدر على البشير؟!
كان قد عقد العزم على تعديل الدستور، ليخلد في الحكم، وليحكم مدى الحياة. وبدا الأمر "نزهة برية"
يقف العالم كله، إلا استثناءات قليلة، ضد اغتيال الصحفي السعودي، وحتى حلفاء السعودية التقليديين لاذوا بالصمت، وعندما تكلموا لم يقولوا شيئاً، فلم يأبه الرئيس السوداني بأحد، وأعلن انحيازه للسعودية وحكامها، غير مكترث حتى بمشاعر الشعب السوداني؛ لأن هذه المشاعر لن تنتج أثراً، فمن يقدر على البشير؟!
هو والإخوان المعتقلون
وفي ظل غياب الشعب، والمعارضة، والنخب التقليدية عن مزاحمته على السلطة، بدا هو السودان، والسودان هو.. ليس مشغولا إلا بنفسه، ولا يعمل إلا من أجل ذاته، ويناور لتحقيق أكبر مكاسب له، ولو بإقامة علاقة بين كل المتناقضات.. فاستثمارات من الدول التي يعادي بعضها بعضا، وأموال تدخل السودان من الفرقاء؛ اختلفت واجتمعت على البشير، دون أي عائد على الشعب السوداني، وتبدو الأمور تحت السيطرة، فمن يقدر على البشير؟!
فكل تحالفاته، وعلاقاته، وارتباطاته، ودوامه اليومي، يدور حول ذاته، وما يمكن أن يستفيد منه هو بشكل شخصي، فهو ومن بعده الطوفان، غير مبال بشيء آخر، وغير معني ولو بأي قيمة إنسانية، ولو أبسط هذه القيم، وهي قيمة الأخوة، ولو كان الوفاء لها لن يكلفه إلا كلمة طيبة، بيد أنه يدور مع نفسه، وليس مشغولاً إلا بحكمه!
كل تحالفاته، وعلاقاته، وارتباطاته، ودوامه اليومي، يدور حول ذاته، وما يمكن أن يستفيد منه هو بشكل شخصي، فهو ومن بعده الطوفان، غير مبال بشيء آخر
إن البشير تربطه علاقة بالحاكم العسكري المصري، وهي علاقة قوية وليست فاترة أو مائعة، وهي علاقة يحرص عليها السيسي أكثر من أي شيء؛ لأنها تدخل ضمن مهامه الوظيفية، عندما يكلف بأمر أو بطلب من جانب الأطراف الاقليمية التي جاءت بالسيسي لحكم مصر، وكفاءته عندهم مرتبطة باستمرار هذه العلاقة وفي قوتها!
والبشير هو ابن الحركة الإسلامية، وقد تربي في مدرسة الإخوان المسلمين. وإن لم يكن الآن عضواً منظماً في الجماعة، فإنه ينتمي للفكرة الإسلامية، والإخوان حلفاؤه في السودان، ومع ذلك لم يحدث مرة أن طلب من السيسي أن يخفف من إجراءاته الإجرامية على المعتقلين من الاخوان، ولم يحدث أن طلب منه الإفراج عن بعض قياداتهم، مثل المرشد العام للجماعة، مقابل أن يستضيفه في الخرطوم، إن كانت مصر لم تعد مستعدة لبقائه فيها، ولم نسمع أنه طلب أن يقوم بزيارة الرئيس محمد مرسي في محبسه، أو بالتوقف عن إهانته!
يصبح الرد على السؤال الأثير: من يحكم السودان؟ الحركة الإسلامية أم البشير؟.. بأنه البشير. فكأن السودان مع البشير وجوداً وعدماً
بعد الثورة المصرية، اندفع قادة دول الخليج لحماية مبارك، وعرضت الرياض استقباله، وعندما رفض مبارك السفر، واضطر المجلس العسكري لسجنه، كان تدخلهم لضمان عدم إهانته، بل إن عدداً منهم زاره في محبسه. وعندما تولى الرئيس محمد مرسي الحكم، وتم نقل مبارك من المركز الطبي إلى السجن، تدخل الملك عبد الله، ملك السعودية وقال: فلتقرروا الأموال المطلوبة من مبارك مقابل الإفراج عنه، والسعودية مستعدة لدفعها لمصر بالكامل دفعة واحدة!
مع البشير وجودا وعدماً
كانت هذه علاقة بين أناس لا تربطهم "أخوة العقيدة" أو رابطة الدين، أو تشابكات التنظيم، لكن البشير مشغول بنفسه، و"الأخوة" من حوله يؤوبون معه؛ لأنهم اعتبروا أن نهايته نهاية لهم. وقد وحدهم الخوف من سقوطه إلى الموافقة على رغباته، ومن بينها تعديل الدستور ليبقى حاكما ليوم الدين. فالطبيعي أنه يقدم شخصية أخرى من الحركة ليضمن استقرار الحكم في حياته، ألا وأن شعاره: "أنا أو الانتحار"، فقد تلاشوا في حضرته، ليصبح الرد على السؤال الأثير: من يحكم السودان؟ الحركة الإسلامية أم البشير؟.. بأنه البشير. فكأن السودان مع البشير وجوداً وعدماً، والبشير ليس مشغولاً إلا بشخصه، حتى أنه في جمعه بين ما لا يجتمع يبدو غير مفهوم، لكن الحقيقة أنه لا يمكن فهمه إلا من خلال حالة التمترس حول الذات، لفهم ما يستعصي على الفهم!
الرجل القريب من السعودية والإمارات والسيسي؛ قريب كذلك من قطر، بل إنه جاء بتركيا إلى البحر الأحمر، وزيارته "المريبة" لبشار الأسد، هي محاولة كسب الرضى الإيراني
فالرجل القريب من السعودية والإمارات والسيسي؛ قريب كذلك من قطر، بل إنه جاء بتركيا إلى البحر الأحمر، وزيارته "المريبة" لبشار الأسد، هي محاولة كسب الرضى الإيراني، الذي بدده فيما سبق، بعد أن تلقى وعداً سعودياً بأن ولي العهد محمد بن سلمان يمكن أن يقربه للأمريكان زلفى، ويحل مشكلته مع المحكمة الجنائية الدولية.. وذهب إلى المملكة في رحلات مكوكية بدت غير مفهومة الدوافع، كزيارته لبشار الأسد، وعندما بدا "المحروس" ليس مشغولاً به، بدأ التقرب من جديد من إيران، لعله يستلفت نظر الأمريكيين أنفسهم هذه المرة، وهو في مأمن من غضب الشعب السوداني لوضعه يده في يد قاتل وسفاح. فمن يقدر على البشير؟!
لقد
خرجت المظاهرات في أكثر من مدينة سودانية، وقد لا تنجح هذه المرة؛ لأنها بدون قادة سياسيين. فقد أمات حكم العسكر السياسة والسياسيين في بلد كان أكله وشربه السياسة، لكن الشعب الذي تحرك ليرد على سؤال من يقدر على البشير، خرج ولن يعود، فإما أن تستيقظ النخبة السياسية من رقادها، وإما أن الشعب في جولة من جولاته سيركلها بأقدامه.
فالشعب هو القادر على إسقاط البشير، إن لم يكن اليوم فغداً.