هذا ما وصف به ابن قيم الجوزية (1292 - 1350م) أستاذه وشيخه ومعلمه، أحمد بن تيمية (1263- 1328 م).. التلميذ النجيب الوفي التقى بأستاذه أول مرة عام 1313م في دمشق، وكان يبلغ من العمر وقتها 21 عاما، ولازمه حتى وفاته. كان
ابن تيمية بحق طودا شامخا فريدا في زمنه، سواء في سماته الشخصية أو في علمه ومعرفته (فقيها ومحدثا ومفسرا ومجتهدا)، أيضا في مواقفه التاريخية وقت الأزمات الكبرى التي عاصرها، وما أكثرها في هذه الفترة العصيبة من تاريخ الأمة. فقد ولد في "حران" (جنوب تركيا) في وقت من أشد أوقات التدهور والانحدار الفكرى والفقهى والسياسى والاجتماعى للأمة، فلم يكن قد مر على سقوط بغداد سوى خمس سنوات (1258م). جاء الرجل
فأصّل للأصول وقعّد للقواعد، وقدّم الإسلام المنهج والرسالة سهلا صافيا مؤتلفا مؤتلقا كما نزل به الوحي من الله على خاتم الانبياء الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، فحق له الوصف الذي لازمه حتى يومنا هذا: "شيخ الإسلام".
أصّل ابن تيمية لمركزية قيمة "العدل" في الإسلام (يقول بذلك بعد ستة قرون الدكتور حامد ربيع، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة). والعدل بذلك يكون هو الأصل الراسخ للسياسة التي تمنح الشرعية للسلطة، وانتصر لمبدأ أن الأمة هي الأساس الوحيد لمشروعيه الحاكم، وهي بالتالي مصدر السلطات،
مؤولا بيعه "السقيفة" و"استخلاف" عمر للستة من الصحابة؛ بأن ذلك كان مجرد "ترشيح" وليست "بيعة نهائية". فأبو بكر كان خليفة في بيعة الأمة له في المسجد، وليس في السقيفة، وعثمان لم يكن خليفة بمبايعة أهل الشورى ولكن في بيعة الأمة بالمسجد.
أصّل ابن تيمية لمبدأ تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية، مؤكدا مسؤوليتها الاجتماعية (دولة الرعاية). وكان دائم التفاعل والاشتباك مع إشكاليات الحياة اليومية لصالح الناس والمجتمع؛ حماية لهم من بغي السلاطين. سنقف كثيرا عند ما قدمه ابن تيمية في فقه التيسير في مجال العبادات، وهو أكثر من أن يحصى، وتلمّس فيه نبض الحياة وحرارة الصدق وروعة الفهم. يكفي أن نعلم أنه أجاز الجمع بين الظهر والعصر مثلا لضرورات العمل (دعا إلى ذلك الشيخ الإمام محمد عبده، واتُهم من خصومة بضعف دينه والتزامه)، وكان يرى أهميه أن تعمل المرأة وتستقل ماليا، وله في فقه الطلاق تبصر ورؤى (طلاق الثلاث). وكان يقول بعدم الحاجة في التحريم إلى نص، إذ يكفى فقط "عدم المخالفة". كان يرى أن كل ما يؤدي إلى إصلاح الناس ويحقق لهم العدل فهو "شرع"، وإن لم ينص عليه "كتاب أو سنة".
وصدق عليه بالفعل مقولة أبي الحسن الندوي؛ أنه كان أعلى من المستوى العلمي والفكري للجيل الذي نشأ فيه. الندوي زار قبر ابن تيمية في دمشق عام 1956 م وكتب عنه جزءاً كاملا في كتابه الشهير "رجال
الفكر والدعوة في الإسلام"، والذي كتب مقدمته الأستاذ العلامة مصطفى السباعي. وله في الكتاب وصف قوي لمكانة وحجم ابن تيمية، تأكيدا لمقولته السابقة، فيقول: "من أراد ان يطلع على تبحّر ابن تيمية العلمي وقوة حفظه وسعة نظره وحضور بديهته، واستحضاره للمسائل ونضجه وإتقانه وذكائه وألمعيته، فليقرأ هذه الآية من كتاب الله: "يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون" (الآية 18 سورة النمل). لا يفوتنا أيضا الجهد الكبير الذي بذله الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه الهام عن ابن تيمية "ابن تيمية حياته وعصره - آراؤه وفكره".
الانحدار الاجتماعي والسياسي والفكري في عصر ابن تيمية واكبه صعود التصوف الشعبي والفلسفي، كرد فعل من الناس على العواصف الكبرى التي أصابت الأمة وزلزلتها مع الضعف المزرى للمؤسسة السياسية ومؤسسة العلماء، فانتشر التصوف المخالف لتعاليم الشريعة، والذي كان أقرب ما يكون لتجارب شخصية تعتمد على المشاعر والانفعالات الإنسانية، وإطلاقها بعيدا عن النصوص ومقاربتها
الفقهية، لا مجاهدة روحية وتبتّل الى الخالق العظيم.
فقام ابن تيمية لاستعادة المبادرة من جديد لتعاليم المؤسسة الدينية ومدرسة الشريعة، كما يقول الشيخ الأستاذ راشد الغنوشى في كتابه الرائع "القدر عند ابن تيمية": "لوث المتطرفون من الفلاسفة والمتكلمين والمتصوفة نبع الإسلام الصافي، بمثل عقائد الحلول والاتحاد ومكان الإنسان في الوجود، خالطين بين الحكمة والنبوة، حيث فضلوا الأولى على الثانية، واعتبروا النبوة خطابا للعامة فقط! أما الحكمة، فهي نبراس الخاصة المنتخبة من العقول الذكية، وقالوا إن الكل مندمج.. الخير والشر والكفر والإيمان، فلا ثنائيات إلا في عين غير العارفين!! وإذا بالأمة كلها في حاله ابتعاد غريبة عن منابع قوتها وتفاعلات الحركة فيها، ونتيجة لذلك جمد الفكر وضمر الاجتهاد، وانسحقت إرادة المسلم تحت وطأة التصوف القائل بالفناء غاية للوجود، وتمزقت الأمة فكريا وسياسيا.. وأصبحت هذه الأفكار بمثابة تدين شعبي مؤيدا من السلطة، وتحول الدين عن حقيقته الاجتماعية، وأصبح نموذجا للانقطاع عن المجتمع والدنيا.. فجاء ابن تيمية وجاهد جهادا كبيرا من أجل الحرية والمسؤولية والحضور الإلهى الدائم في الكون والحياة..". من المهم هنا أن نعلم أن ابن تيمية أثنى على
شيوخ التصوف الأوائل، مثل الجنيد والكيلاني، فليس مثل ابن تيمية يجهل قدر هؤلاء؛ هو هاجم فقط أهل الحلول والاتحاد، أمثال الحلاج وابن عربي وابن سبعين الذين اعتقدوا باتحاد الذات الإنسانية بالذات الإلهية اتحادا جوهريا.
يقولون إن ابن تيمية هو أبو الإحياء الإسلامي في العصر الحديث (كما لاحظ وتتبع أثاره وتأثيره الشيخ راشد)، وهو كذلك بالفعل وبلا منازع، بالرغم من أنه لم ينجح في عصره، وعاش سنين اضطهاد طويلة.. ومات في سجنه.
قدم ابن تيمية فكرا وفقها وعلما ومعرفة غاية في الاتساع والتكامل والشمول، حيث لا جمود ولا تبديد، إنما اجتهاد وتجديد لا ينقطعان لنهر الدين في صحراء الدنيا.