نوري، كردي يصغرني بربع قرن، طائش، مرح، وسيم، وهو بطل مجموعتي القصصية "الحورية العثمانية"، التي أرجو أن تصدر قريباً. وأنا مساعد البطل في المجموعة القصصية، فلكل بطل مساعد.. عنترة مساعده شيبوب، ودون كيخوته مساعده سانشو، ونتنياهو مساعده السيسي، وبشار الأسد مساعده صالح مسلم.
لكل بطل صبي، يحضر له الشاي وأدوات الحلاقة، ويلمُّ الطلقات الفارغة، ويرفسه معلمه عند الغضب. في الأفلام الهندية مساعد البطل مهرج عادة، وغالباً مسلم، وكان سيخياً في فيلم "أمسية في باريس". يجتمع البطل ومساعده من أجل قهر وحشة المنفى، فكل غريب للغريب نسيب، وقد اتفقنا أنا وهو على مكيدة من أجل المنادمة واللهو، وهي إصدار جائزة كردية على غرار جائزة الأوسكار السينمائية، نمنحها لأصحابنا ومعارفنا
الأكراد، المصابين بالبوشار في المخ، أطلقنا عليها اسم جائزة "البوشار الذهبي".. والجائزة عبارة عن حبتي ذرة مشويتين، تصلحان قرطين يعلقان في الأذنين. والأقراط هي للإناث، في الجماعتين العربية والكردية، إلى أن امتد بنا الزمن ورأينا أبناءنا وأحفادنا يعلقون الأقراط بآذانهم، علامة على اعتناق الحداثة من ذيلها المقطوع، فبات علينا حقاً تعليق البعر في الآذان. البوشار ابتكار غذائي للهنود الحمر سرقه الأمريكان منهم وجعلوه للنكاية طعاماً في السينما، يُباع في أوعية كبيرة، حجم كل واحدة مثل حجم سلة المهملات ودلو الماء، وهكذا يستمتع الأمريكي مرتين: يقتل الأمريكي الغازي الأمريكي الأصلي، الذي سماه سابقاً بالهندي الأحمرفي الفيلم، ثم يأكل طعامه الأثير استمتاعاً بالقتل.
الكردي يقول في الأمثال إذا نذر نذراً لأمنية مستحيلة: سأعلق بعراً في أذني إن تحققت.
الطرائف حقيقية في هذه النصوص التي سأرويها من ماضي الذكريات، أبطالها من لحم ودم، ويقترفون حماقات مروعة، لا عطّار يصلحها ولا قبّار يقبرها، فيها بصمة كردية يمكن تمييزها من بين سبعين عرقا من الأعراق البشرية. وكنت معجباً أشد الإعجاب برواية سليم بركات "فقهاء الظلام"، وقوة حدس الروائي الشاعر وبصيرته في تشخيص الألم الكردي وفجيعته وبؤسه، ويروي بركات قصة مولود كردي يكبر في الدقيقة ما يكبره المواليد في سنة، واسمه بيكاس، ويعني اليتيم، أو المقطوع من شجرة ، وخلال يومين يكون المولود قد شاخ وولد له مولود جديد. للرواية تأويلات؛ أحدها أنّ الكردي لا يستطيع مواكبة الزمن، فقد كان متأخراً دوماً، وهو الآن يحاول سباق الزمن، والحصيلة هي؛ التفاف الساق بالساق، وحماقات حتى التراقي والأعناق، فيما هو الفارياق. يجد الأب بيناف (بلا اسم) نفسه حائراً، فيخفي القصة عن الجيران، ثم يزوج ابنه بعد يومين من ابنة أخيه المتخلفة عقلياً، فيعالج حماقة بحماقة، فتكبر الحماقة مثل كرة الثلج.. سليم بركات أطلق على روايته اسماً مبيناً هو "فقهاء الظلام"، وكان لها في المسودة الأولى اسم آخر.
الآن سيخرج كردي مصاب بالتناذر البوشاري، حانقاً ويقول لي: ياهووو أنت كافر، بيكاس ليس معناها اليتيم، وإنما معناها "لا أحد".
أول الأخبار، خبر صديق شاعر اسمه حكمت، قصدنا داره لاصطحابه إلى الأمسية الشعرية، فقرعنا جرس الباب في حي الشيخ مقصود، ودخلنا، ورأيناه جالساً على طرف السرير، وزوجته تسرح شعره السميك الذي يشبه شعر الماعز، كان يجلس قرير العين بين يديها، وهي تجتهد في ترتيب شعره وكأنه تلميذ ذاهب إلى المدرسة، فالتفتُ إلى زميلي الكاتب عبد الله، الذي كان يكبح نفسه من الضحك، وقلت له:
- خوديوي ، يبدو أن الزواج شيء جميل يا هووووووو.
- قال عبد الله: بل إنه شيء رائع يا خديو.
- قلت: خوديوي... سأحرص بعد الزواج أن أجلس مثل الأطفال، وتسرح زوجتي شعري قبل الخروج إلى الصيد.
- قال عبد الله: الزواج يا هووووووووو، أنت تحلم، عندما نتزوج سيكون شعرنا كله قد سقط شهيداً في جبهات الحياة يا هوووووو.
- قلت فعلا، التصحر يغزو الكرة الأرضية، وتصحر الكرة الكردية من داخل الرأس ومن الخارج أيضا.
لم يكن حكمت صغيراً مثل زوجته، فكان يكبرها بسنوات، لكنه كان محظوظاً بشعر كشعر الماعز؛ يصلح لصناعة بيوت الشعر في المسلسلات البدوية.
كنا نجتمع في شارع البارون في اتحاد الكتاب العرب، وكان فرع الاتحاد قد أقام أمسية لمجموعة شباب، بينهم شاب كردي شديد التهذيب مع الزملاء، لكنه فظ وخشن على الورق، يكرُّ غازياً على المحرّمات في الكتابة؛ محرم الجنس خاصة. روى قصة ورد فيها تعبير ساخر هو"ميزوريخ".
كان هذا الشاب يعاني من مشكلة مؤبدة في التناذر البوشاري، سنرويها لاحقا.. والتعبير في الترجمة إلى الإنكليزية معناه "بول شيت". انتهى القلم الواعد السوري الذي صار لاحقاً نجماً في كردستان التركية، اسمه يرد في كل الكلمات المتقاطعة، من رواية قصته، وانبرى ناقد له ربع لحية في ذقنه، وراح يلقي بالأضواء النقدية على القصة، وذكر "ميزوريخ"، ونطقها نطقاً غير صحيح؛ لأنها كلمة كردية، وسأل: هل هو كوكب من المجموعة الشمسية أم من درب التبانة؟
وكانت غرفة الاتحاد صغيرة، ثم انتقل لاحقاً إلى العبّارة، فوق مكتبة استبانولية، ولم تكن تتسع لثلاثين راكباً، وكان بينهم ناس في الخلف وقوف، فانبرى حكمت من بين الصفوف، واقتحم الكراديس، يجندل هذا ويصرع هذا حتى بلغ المنصة، مثل مارتوان الذي علم بأن الغزاة قادمون، فركض إلى أهله لينذرهم. وصل حكمت، ولم تتعطل تسريحته، وهو يصرخ: ميزوريخ، ميزوريخ (بكسر الراء لا بفتحها)، وخشينا عليه أن يقتل الناقد لولا أن تداركنا الله برحمته وفصلنا بينهما بسدٍّ كسدِ ياجوج ومأجوج.
لقد كان مصاباً بمتلازمة البوشار المتفرقع، ويستحق جائزة البوشار الذهبي.
البوشار، هي حبّة الذرة بعد تعريضها للفحة نار، هي أسرع طعام نضجاً على الإطلاق، وهي بلا طعم.. طعمها يشبه أكل الخرق.
وقد رويت منذ أيام على صفحتي واقعة لجوء سياسي لشاب كردي عجيبة وغريبة، من ملفات اللجوء، حفظتها في المذكرة، لا تنزل في قبان، تشبه قطعة الكريستال، من حسن عرضها لأزمة الهوية الكردية المتذررة، فهي تبيّن تمزق الهوية الكردية. الكردي أكل حبة فياغرا قومية في السنوات الأخيرة، فانتعظت همته أشد الانتعاظ، ولم يعد يسعه زيّه، مع أنّ الزي الكردي واسع. النطاق الكردي في الزي الكردي طويل؛ طوله ثلاثة أمتار، يظل الكردي يلفه حوله وسطه حتى يفقده وزنه، ويتحول إلى ما يشبه الطائر. النطاق يفقد العقل إذا ربط حول العنق.
القومية الكردية آخر القوميات المستيقظة من النوم، والنعرات القومية بدعة وافدة من أوروبا، من الأحزاب الشوفينية الثورية النازية والبلشفية، فنشأت أحزاب البعث والشيوعي العربي والقومي السوري، التي يستعاذ بالله من تطرفها القومي، على أيدي ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار العائدين من أوروبا.
فكرت في كتابة نص أجمع فيه أسماء أصحابي المصابين بالتناذر البوشاري، أو أمضي حقبا، فتذكرت وقائع وأحداثا كثيرة، على خملى خوص الركاب وأوجرا، وقلت في نفسي إن الأمر يستحق أن أروي ذكرياتي مع النخبة الكردية التي كانت كلها مصابة بمتلازمة الذرة المشوية.
في إحدى رحلات العودة من حلب إلى القامشلي، جلس بجانبي شاب كردي كان يخدم العسكرية، وتعارفنا، وراح يروي لي متفاخراً إعجاب معلمه به. في الجيش يسمون الضابط بالمعلم. وكان المعلم قد اختاره ليكون خادماً له؛ يحمل حقيبته، ويؤثره بمودته فيرسله إلى البيت بالحاجات، مثل أكياس البطاطا والخضار، وأحياناً كان يجلي الصحون للزوجة. وكان سعيداً جداً لا تسعه الدنيا. ورأى في يدي خريطة تفصيلية لسوريا، فأعجب بها وطلبها فأعطيتها له، وودعني. لم أر شاباً سعيداً مثله، ثم رأيت حزباً كردياً يحكم المناطق الكردية أو المناطق التي يكثر فيها الكرد، يكرر قصة ذلك الشاب الذي كان سعيداً بخدمة الضابط العلوي.
الوقائع المرة التي سأرويها في كتاب مذكرات، سيكون عنوانها: "يا هووووووووو" ستفقدني آخر الأصدقاء، وقد أصير حفيد صلاح الدين الأيوبي الأخير، مع أني سأحاول جهدي إخفاء الأسماء الحقيقية لأبطال الوقائع، وربما أصير أنا أيضاً: بيكاس، اليتيم كما كنت دوماً، الوحيد، المقطوع من شجرة.
سنقلع من بلدة عامودا، عاصمة الذُرة النووية في العالم، وسآخذكم منها في رحلة بطائرة مروحية؛ مروحتها من ريشة واحدة، لا تصلح حتى للكتابة، إلى كوكب "البوشاريخ" في درب التبانة.
اربط الأحزمة على الخصر وليس على الرقبة..
اربطها يا هوووووووووووو.