في كلمته أمام
مؤتمر ميونيخ للأمن، قال
السيسي إن كثيرا من دول العالم لم تفهم حقيقة ما حدث في عام 2013، وأن الحقيقة أن 30 مليون خرجوا لرفض "الحكم الديني"، مضيفاً أنه كان أول رئيس دولة مسلمة يتكلم عن الإصلاح الديني وتصويب الخطاب الديني.
دعونا أولاً نقف عند عبارة السيسي "الحكم الديني"، ولن أدخل هنا في جدل حول حقيقة الأعداد التي خرجت، وسأقف عند كلمة الحكم الديني التي يقصد بها السيسي فترة حكم
الرئيس المنتخب محمد مرسي، والتي امتدت لعام واحد. فما هو الحكم الديني أو الثيوقراطي؟
الثيوقراطية هي نمط حكم يدّعي فيه الحاكم أو السلطة القائمة أنها تستمد شرعيتها من الله، وأن الحاكم يحكم باسم الله، وأنه ظل الله في الأرض، وبذلك يتغلب الحاكم على إشكالية "الشرعية السياسية" بحجة الاستجابة لإرادة الله. لذلك، فالشعب مُجبر على الطاعة العمياء لهذه السلطة على قاعدة الحق الإلهي.
وساد الحكم الثيوقراطي أوروبا في العصور الوسطى، ونتج عنه تحالف النبلاء والكنيسة مما أى لاستبداد وفساد عظيم، إلى أن انتهى بقيام الثورة الفرنسية عام 1789. وبالنظر إلى الإسلام، فلا مجال للحكم الديني أو الثيوقراطي فيه، فلا وجود لكهنة ولا رهبان يدّعون الحكم باسم الله. وبالعودة إلى فترة حكم الرئيس مرسي، فقد وصل إلى الحكم بإرادة الشعب وبشكل ديمقراطي كامل، عبر انتخابات حرة شهد بنزاهتها العالم أجمع. فلم تكن لدى الرئيس مرسي أي إشكالية في ما يتعلق بالشرعية السياسية (مثلما يعاني السيسي من إشكالية الشرعية) حتى يتدثر بالحكم الديني، ولم يدّع أنه يستمد شرعيته من الله أو أنه حاكم باسم الله أو ظل الله في الأرض، ولم يطلب مرسي من الشعب الطاعة العمياء له، على قاعدة الحق الإلهي، بل كانت أولى كلماته للناس أنه ليس له حقوق، وللشعب كامل الحقوق.. ولم يستعن بالمؤسسات الدينية، كالأزهر ودار الإفتاء والكنيسة وغيرها، لترسيخ حكمه واستبداده، كما يفعل السيسي الآن؛ الذي يلجأ للفتاوى الشاذة التي تخرج من هنا وهناك، بل كانت كل هذه المؤسسات (أو جلها) تقف ضد الرئيس المنتخب، وكثير منهم حرّض الشعب ليل نهار على وجوب الخروج على مرسي، وحرمو هذا الخروج على الناس في عهد السيسي! لذا، فادعاء السيسي عن حكم الرئيس مرسي أنه كان حكماً دينيا هو محض كذب وتدليس، ناهيك عن أكذوبة الثلاثين مليون!
أما السيسي، فبدأ انقلابه العسكري بالاستعانة بكل المؤسسات الدينية، وجميعنا يتذكر مشهد بيان الانقلاب العسكري على الرئيس المنتخب، بحضور شيخ الأزهر وبابا الكنيسة وممثل حزب النور، ثم استعانة السيسي بعد ذلك بالمفتي السابق علي جمعة لإصدار فتوى تستبيح دماء المعتصمين السلميين في ميدان رابعة العدوية؛ بعبارته المشهورة "طوبي لمن قتلهم وقتلوه"، وما قاله سعد الدين الهلالي، الأستاذ في جامعة الأزهر، بعد مذبحة رابعة، عن السيسي ومحمد إبراهيم اللذين أشرفا على المذبحة وخططا لها؛ بأن الله ابتعثهما كما ابتعث موسى وهارون عليهما السلام.. وفتوى محمد سعيد رسلان بتحريم الترشح ضد السيسي، واستخدامه لعمرو خالد وغيره ممن يُطلق عليهم الدعاة الجدد، إلى أن وصلنا للفتوى الصادرة عن دار الإفتاء
المصرية منذ أيام باعتبار
الإخوان المسلمين خوارج العصر، وأن قتالهم من قبل الجيش وشرطة السيسي واجب، وذلك لتبرير قيام السلطة العسكرية بإعدام تسعة مواطنين مصريين مظلومين في القضية المعروفة إعلامياً باغتيال النائب العام.
لذلك، إذا دققنا النظر، فسنجد أن السيسي هو من يستخدم المؤسسات الدينية والعلماء ضعاف النفوس بما يخدم استبداده وظلمه وسلطويته، فمن إذاً الذي يحكم باسم الدين زوراً وبهتانا؟ من الذي يستخدم الدين لعلاج مشكلة الشرعية السياسية لديه؟ مرسي المُنتخب أم السيسي المُنقلب؟
ومن اللافت في الواقع المصري أن السيسي ومن حوله من العسكر قاموا بالجمع بين سلطتين للحكم في آن واحد (العسكرية والدينية الثيوقراطية). فالسلطة العسكرية هي التي جاءت للحكم عبر انقلاب عسكري، بما يعني سيطرة الجيش على مقاليد الحكم في الدولة بمنطق القوة، بحيث تكون الكلمة الأولى والأخيرة للرجل العسكري أو مجموعة العسكر الذين يقفون علي رأس الجيش. وفي هكذا دولة، لا مجال ولا مكان للديمقراطية أو تداول السلطة، وإن حدثت انتخابات تكون شكلية، ومزورة ومُفرغة من مضمونها، ومحسومة سلفاً للجنرال مرات ومرات، إلى أن يخرج على ظهره إلى القبر. ولا مكان فيها لإرادة الشعب، وبذلك نجح طبيب الفلاسفة الذي جاء بانقلاب عسكري؛ في الحكم بنظام يجمع بين السلطتين العسكرية والدينية الثيوقراطية.
والأمر الأخير، حقيقةً لا أعلم ما الذي يفهمه السيسي أو يفقهه في الدين ليُطالب بالإصلاح الديني أو تصويب الخطاب الديني؟
وكم ذا بمصر من المضحكات... ولكنه ضحك كالبكاء