على مدار التاريخ الانساني، حين يتجاوز الطغاة المستبدون مرحلة الشعور بالتهديد، تتغير بواطنهم ومنطلقات تفكيرهم، فيسيطر عليهم شعور عميق وتفكير مسيطر: إنهم آلهة في الأرض ينبغى أن تنحني لهم الرقاب ويسمع لهم الخلق، بل يتعلقون بهم طاعة ورهبة.
حال
فرعون تكرر ولا زال يتكرر اليوم، خاصة في دول
العالم العربي، إذ نجد أن الفراعنة الجدد الذين يمارسون الطغيان، ينتابهم شعور بأنهم آلهة، فهم مخلدون بالحكم (كانوا ملوكا أم رؤساء)، يستبيحون الدساتير ويتلاعبون بها كيفما شاؤوا، يجمعون اموال الشعوب عبر الاستيلاء على الحصة الكبرى من الثروات أو جمع الضرائب، ويرمون بالفتات لمن حولهم من الأوتاد الذي يتكاثرون كالعبيد حولهم، عبيدا للمال والسلطة.
حالة التخلف التي تعيشها الأمة في ذيل قافلة الحضارة الإنسانية، من انعدام الكرامة الإنسانية للشعوب، وتراجع قيمي وفقر وجوع وحكم استبداد، وعمليات القتل والتعذيب والفساد والسرقة والفشل.. هذه الحالة باتت هي السمة الغالبة لكثير من الأنظمة، حتى نجد أن غالبهم صادر حق الصمت، فيمنع عليك إلا أن تكون "سحيجا" فقط، وإلا فأحكام الإرهاب والخيانة والإعدام جاهزة. بل أدهى ما في الأمر، أنه ينبغي عليك التقلب في المبادئ والمواقف كما يتقلبون.
ليس غريبا أنهم يشعرون بالفضل على شعوبهم، فيمنّون عليها أنهم يحكمونها بالحديد والنار، ويتكرمون عليها من أموالها التي يأخذونها منها، ويجعلون من أوباش الناس أصحاب سلطة ونفوذ. وأمام هذا التجبر على الشعوب، فإنهم أذلة صاغرون أمام الآخرين من أعداء الأمة التاريخيين الذين احتلوا أرضها واستعبدوا شعوبها قرنين من الزمن. هذا التمنن عبّر عنه فرعون الأول حين خاطب سيدنا موسى عليه السلام بقوله: "قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ.."، فرد عليه سيدنا موسى بقوله: "وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ".
ومنّة
العبودية تأخذ أشكالا مختلفة في العصر الحديث، فتراها في الوظائف العامة التي يمتن بها الحاكم على المواطنين مع أنها من أبسط حقوقهم، وتراها في الأعطيات لبعض المحاسيب ليصنع منهم عبيدا بهيئة مسوؤلين، وتراها في البنى التحتية وبعض المرافق، مع أنها شُيدت بأموال الشعب أو ثروات الوطن، وتراها أيضا في استدامة السلطة بحجة خدمة الشعب، وأكثره له كاره.
هذا الانحراف في التفكير لدى هذه الفئات وعبيدهم، لم يجد في أمثالهم عبر التاريخ نصح أو محاولة إحياء بعض جوانب الخير لديهم، ولن يجدي أيضا مع فراعنة العصر ذلك أيضاً. وليس مطلوبا شرعا ولا عقلا تكرار محاولات النصح إلى ما لا نهاية، فسيدنا موسى عليه السلام لم يضع وقته في إصلاح فرعون بعد البرهان الكبير في المجادلة ومحاججة السحرة الكبار، بل ذهب باتجاه عمل أكثر نفعا. وهكذا الأمر في العصر الحاضر، لا بد من إقامة الحجة عليهم، ثم التحول نحو أعمال أكثر أثرا في التغيير وأكثر تأثيرا في واقع الناس، والله تعالى يقول عنهم: "وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون". أعتقد أن من أوجب الواجبات الشرعية والوطنية هو تحرير الشعوب من الاستسلام للعبودية المفروضة عليهم بأشكال شتى، حيث سيشكل ذلك بداية النهوض للأمة.