بات جليا أنه لا يمكن تجاوز حالة الغرق التي تعيشها الأمة العربية، بأنظمتها السياسية ونخبها وتنظيماتها السياسية وشعوبها، بذات وسائل النجاة السابقة مهما تكرر استخدامها وأضيف عليها من محسنات، فالمشكلة نوعية في المسار ووجهته، وليست كمية وبنقص عمل وجهد.
المعضلة كبيرة، وأساسها الحكام الذين دمروا البنى النفسية للإنسان العربي، فأصبح في أغلبه يعيش لذاته، يفكر في قوت يومه (وبالكاد يجده) وبالحد الأدنى من الكرامة الإنسانية، ويسعى في أماكن كثيرة للحفاظ على حياته وأسرته هاربا ولاجئا من أرض إلى أخرى، وفي يد قلة منه بعض ثروات أرضه.. وعاث المسيطرون على السلطة والثروة فسادا في الأرض.. وفي أقل الحالات سوءا، هو بلا قيمة أو فاعلية سياسية، فليس لهذا الشعب حرية اختيار وتمثيل حقيقي.
المحصلة أن كل تلك الأوضاع جعلت من الأمة حالة بلا قيمة حضارية.. أرضها محتلة ومستباحة، ومالها منهوب ومسيطر عليه، وبلا سيادة على أرضها ومائها.. يخلع المستعمر حكامها، ويعين من يشاء ممن يستمرون في التبعية له.
كانت محاولات من الشعوب في الأعوام 2011 و2012 وما تلاها للتحرر، ولا زالت تحاول ويضحي البعض منها لذلك، وفي المحصلة فشلت تلك المحاولات بالكلية مع بعض محطات أفضل نسبيا من أخرى، لكن لا يمكن القول إنها وضعت أرجلها على بوابة العبور للمستقبل.
لقد سلمت الشعوب لحكامها أمر نفسها عبر الدساتير والقوانين تارة، وأخرى عبر السلطة واحتكارها، وفي كلتا الحالتين عبر أبنائها من العسكر ورجال الأمن؛ الذين تربّوا على أن يكونوا تبعا للحكام وطوع أيديهم، وليسوا حماة أوطان وشعوب في الأعم الأغلب، وإلا لما رأيناهم يقتلون أهليهم؛ ليس لذنب غير أنهم خرجوا بمظاهرات يطالبون بالحد الأدنى من حقوقهم وحقوق أبنائهم. لقد ثبت بكافة التجارب أن من يتحكمون بالعسكر هم الذين يستأثرون بالسلطة والثروة معا، وما زالوا يقودون الشعوب من فشل إلى فشل، حتى إن كثيرا من دول أفريقيا التي كانت تعيش في جهل وتخلف إلى عهد قريب قد سبقتنا نحو الحضارة والحرية.
ليست الأحزاب والنخب السياسية ببعيدة عن تحمل بعض المسؤولية، إذ إنها لم تطور في أدواتها وبرامجها وخطابها بحيث تكون مؤهلة لقيادة المجاميع الشعبية الرافضة للأضاع الحالية، والتي قدمت مئات ألوف من شبابها شهداء ومعتقلين، غير الملايين من المشردين واللاجئين. إن تقادم القيادات وتكلس الأدوات في التعامل مع الجماهير جعل كثيرا من التضحيات لا تثمر شيئا، وهي تتحمل مسؤولية القيادة والتوجيه لكثير من الطاقات الصادقة والمضحية من الشباب.
لسنا بموضع محاكمة لأحد حتى نسترسل في حصر الأخطاء، فليس أوانها ولا مكانها، لكننا معنيون بالإشارة للمستقبل، وإن كنا لا ندّعي أننا نمتلك التصورات المفصلة لذلك.
نقول بكل ثقة إنه إذا أردنا العبور للمستقبل، فينبغي علينا التخلص من كثير من السياسات والخطط السابقة التي لم تنجح، وأن نرسم خطوطا جديدة للاصطفاف والمواجهة، بحيث نتجنب المواجهة الكمية، ونتجنب الانشغال بالمعارك الجانبية نحو مواجهات للقوى الرافضة للتغيير، والتي تمتلك وتتحكم بأدوات القوة التي هي ملك للشعوب.
لقد كانت خطط إفشال تحركات الشعوب في الأعوام السابقة واضحة في إشغالها واستدراجها أحيانا أخرى، في عمليات تدمير لقوى الشعوب وإمكانات الدول في مؤسساتها وبناها العسكرية والأمنية، فكانت النتيجة خسران الشعوب ودمار المؤسسات وبقاء المستبدين والفاسدين.
إن هذا المسار يحتاج من المفكرين وأصحاب التجارب والخبرات السياسية أن يجتهدوا بالتفكير في الأشكال والأدوات الجديدة؛ التي تتناسب مع طبيعة الوضع القائم وإمكانات الشعوب والتنظيمات السياسية، بحيث تستفيد من الأخطاء السابقة، وأن تفسح المجال لقيادات شابة جديدة غير مقيدة بأنماط التفكير والعمل السابقة، بحيث تقدم إبداعات مختلفة؛ تربك المسيطرين على الأوضاع الراهنة وتتقدم للأمام بأقل الكلف الممكنة، وتستهدف مفاصل القوة لديهم (المسيطرين) دون المواجهات الكمية التي خسرت الشعوب فيها.