تعيش المنطقة العربية في حالة انقسام وصراع سياسي بين أنظمتها، لدرجة أصبحنا نترحم على حالة التوحد العربية التي كانت تعبر عن نفسها ببيانات إعلامية فقط؛ تؤكد على وحدة الأمة ومصيرها المشترك، حتى دون أي
مشاريع ملموسة. لم يكن الربيع العربي سوى القشة التي قصمت ظهر البعير، إذ كشفت حقيقة هشاشة هذا النظام العربي في سنواته الأخيرة، إذ وصل لمرحلة الشيخوخة المقعدة التي لا تنفع معها كل المسكنات والمنشطات.
مشكلة الأمة العربية معقدة ومركبة، تتصدرها غياب الزعامة المؤهلة لقيادة الأمة وتجميع أشلائها من جديد.. الزعامة التي تحمل مشروعاً يعيد للعرب دورهم الحضاري في التاريخ الإنساني، زعامة يتجاوز تفكيرها "الأنا الفردية والقطرية"، تعيش لشعبها كما لأمتها، لا تخيفها صيحات الأعداء من كل جانب، ولا تقلقها تشرذم الحال وكيفية الخروج منه.. زعامة تشتسعر شرعيتها من شعبها؛ بقيامها بالعدل وسوس الناس بالحكمة والرحمة.
الشكوى من وجود مشاريع لدول وكيانات عالمية وأخرى في المنطقة تحاول إتباع "الساحة العربية" لنفوذها ليست مقبولة، فالحقيقة العلمية التاريخة البسيطة تثبت أن العالم لا يقبل الفراغ. فأمام غياب مشروع عربي قيمي جامع، أو حتى مشروع قُطري عقلاني، فإن المتوقع أن نكون كالكرة التي يتقاذفها اللاعبون. فتشخيص الوضع السياسي العربي لا يحتاج إلى عمق نظر، فبين "دول فاشلة"، وبين "أنظمة فاشلة" في الحصول على شرعية غير الحديد والنار، إلى أنظمة تمارس سياسات بعيدة كل البعد عن الحكمة والرشد، وآخرها أنظمة متوقفة النمو، وهذه حالة لا يمكن أن تصمد أمام التغير المستمر، حتى انهارت كل أنظمة العمل العربي المشترك، وآخرها مجلس التعاون الخليجي.
القارئ للتاريخ العربي يعلم يقينا أن الأمة مرت بهكذا وضع، وربما بحالات أسوأ، ولكنها تجاوزتها. يكفي أن نشير إلى عصر "إمارات المدن" وتحالفها مع الصليبيين، لكن الأمة نهضت بمبادرات لقادة عظام، امتلكوا الرؤية، ورسموا طريق النهوض، واستنهضوا العلماء، فقاموا بواجبهم وسارت الأمة خلفهم ونهضت من جديد. ولا زلنا نستذكرهم ونترحم عليهم أعلاما مضيئة في تاريخ الامة.. يكتفي الكثيرون بالحنين لتلك العصور والتغني بتلك الأمجاد فحسب.
التغلب على هذا الحال ممكن، لكنه يحتاج لثلة تستفيد من تجارب التاريخ؛ تدرك نقاط
القوة وأماكنها، ونقاط الضعف ومواطنها، تستثمر في الشباب الذي لم يعد يؤمن بكل الأنماط الموجودة، يتطلع بشوق لمستقبل يعيد لهم حقهم بالحياة الحرة الكريمة، والشعور بسيادة أوطانهم.. ثلة تتجاوز مراحل طويلة من التجارب والمعاناة قامت بها حركات وأحزاب امتلكت نوايا طيبة وأهدافا نبيلة فحسب، تفكر في الخروج من هذا النفق المظلم بأقل التكاليف.. ثلة تدفع بزعامات حقيقية لقيادة المشهد نحو بر الأمان، وإلا فإن الطوفان سيعم الجميع، حتى وإن كان متفرجا، فلم تعد الحدود السياسية سدا أمام طوفان الخراب في المنطقة.