كنا نسمع عنها في بر مصر حتى عشناها في تونس ويبدو أن أمراض المشرق تستفحل في المغرب. كنا في السابق نعزوها لإقصاء النظام لمعارضيه وتقديم أنصاره والمروجين له، ولكن النظام سقط فازدهرت الشللية وتبين أنها مرض اليسار التونسي قبل أن ينقل عدواه إلى غيره، ولا مثقفين هنا بعد إلا مثقفي اليسار الحداثي رب الشللية وخلاّقها ومروجها والآكل الوحيد على قصعتها. إن لم تكن من اليسار التونسي فلا حظ لك من مال الدولة ولا من مؤسساتها ولا من معارضها وندواتها وإذاعاتها. ولا حظ لك من أن تنتج لبرنامج مدرسي أو أن تحظى بنقد أكاديمي مهما كان الإبداع الذي حاولت.
كيف تملك اليسار شلة الثقافة؟
حوّل اليسار التونسي الثقافة التونسية إلى ضيعة خاصة مغلقة لا يمكن الدخول إليها إلا ببطاقة الانتماء الأيديولوجي وبشرط إثبات لا غبار عليه أن تكون ساهمت في معركة اليسار ضد الإخوانجية، كأن تنتج مسرحا يلعنهم أو سينما تفضحهم أو رواية تمجد قتلهم، أما غير ذلك فأنت (إخوانجي) مقصي من كل المنابر. وفي مقدمتها الطريق إلى المال العام، فالمال العام الثقافي ميزاب يصب في حوض اليسار فقط والويل لمن يقترب من وزارة الثقافة وصناديق الدعم الثقافي وصناديق تمويل البعثات والملحقيات الثقافية.
كانت هذه رشوة بن علي لمثقفي اليسار نظير تبرير مجزرته ضد التيار الإسلامي، ليس معنى هذا أن اليسار غير مثقف أو لا ينتج ثقافة ولكن تثمين ثقافته والترويج لها كان يقتضي أن تصير ثقافة الدولة تمويلا وترويجا، فكانت الصفقة ولا تزال آثارها قائمة بل غير قابلة للزوال مادامت الدولة تمول الثقافة وتمتلك قنوات ترويجها الرسمية.
مجال الثقافة كما هو الآن غير قابل للتثوير لأنه موضع غنيمة لو تم تحريك عناصره يفقد المستفيدون مواقعهم فيه لذلك هو قطاع محافظ ولو كان بيد اليسار.
ليست تلك القناة الوحيدة بل هناك غيرها وأكثر تأثيرا. لجان اختيار الكتب المدرسية للمطالعة تمر عبر لجان يسارية أو عروبية ولا يمكن أن يوضع نص للمطالعة المدرسية في الإعدادي والثانوي إلا من شلتهم وهذا يترجم لاحقا مالا وشهرة ونفاذا إلى جمهور القراء وإلى بعض النقد وإن كان مدرسيا.
وهناك لجان الانتداب في الجامعات حيث يصنف المرشحون أيديولوجيا ويفرزون فلا يدخل شلة الجامعة إلا اليسار وقد كان ديدن اللجان قبل الثورة خاصة الفرز قبل المناظرة وتوزيع المواقع الأفضل على الشلة المقربة إلا أن يظل شغور في مكان بعيد يزهد فيه لمجهول.
الثورة لم تقض على الشللية
فشلت مرحلة التأسيس في إعادة تأسيس الثقافة على قاعدة مساواة يقدم المبدع فيها على الدعي. لم يكن لمن تصدى للحكم مشروع ثقافي ولا تبدو الثقافة على جدول أعماله. لذلك ظلت الشلل الثقافية القديمة في مواضعها بل ازدادت نفوذا لأن بن علي لم يعد يبتزها أو يهددها بل هي تبتز الدولة عبر السيطرة على الأجهزة الثقافية وتمارس فعلا وقولا بلطجة ثقافية فتقصي من تريد وتفتح لمن تريد.
مجال الثقافة كما هو الآن غير قابل للتثوير لأنه موضع غنيمة لو تم تحريك عناصره يفقد المستفيدون مواقعهم فيه لذلك هو قطاع محافظ ولو كان بيد اليسار.
الشللية بروحها المحافظة قضت على الثقافة في تونس فلم يعد بلدا منتجا لأية ثقافة إلا ترديد مقولات الحداثة المفرغة من كل مضمون تقدمي
من هذه الزاوية، نجد أن نعت الشلة الثقافية المسيطرة على الثقافة بأنها شلة يسارية أمر مثير للضحك فهي شلة محافظة بل رجعية لأنها ترفض كل تغيير يأتي من خارجها هي طائفة وهو تعريف يبدو أكثر دقة طائفة اليسار المنغلق على كنز الثقافة لا يمكنه تغييره وتثويره وكل مشروع ثقافي في تونس لا يهدم البناء الحالي ليغير المؤسسات ومسارات إنتاج الثقافة لن يكتب له النجاة من هذه الطائفة التي يمكن تشبيها بالعنكبوت الأرملة السوداء المرابطة في شبكتها تقتل كل من يقترب وتلتهمه.
الشللية بروحها المحافظة قضت على الثقافة في تونس فلم يعد بلدا منتجا لأية ثقافة إلا ترديد مقولات الحداثة المفرغة من كل مضمون تقدمي، حتى صارت كلمة تقدمي تعني الحرب على الإسلاميين بشرا وأفكارا.
أفق الثقافة في تونس: هدم الشللية
لكسر الشللية الثقافية وفتح الأبواب لكل من يروح إنتاج ثقافة هي كسر الجهاز الحالي للثقافة وأعني بها وزارة الثقافة وتفكيكها بإحالة مهامها إلى الجهات والأقاليم كما حددها الباب السابع من الدستور. وهذا ليس عملا سهلا. لكن قطع الشللية يمر عبر كسر قاعدتها القانونية المتمرسة بالاستيلاء والمنع وطرد المختلف.
المختلف الممنوع من الثقافة في تونس ليس الإسلاميين وحدهم فهم جزء من الضحايا وإن كان لهم حزب يحاول أن يفتك لهم قسطا من الموجود بالتحايل والمسكنة الذليلة أمام شلل اليسار الثقافي المستولي على المواقع أي إعادة أنتاج شللية موازية. أما من كان خارج هذه الشلل الحزبية فليس له الآن يجد مدخلا مختلفا ولن يتوفر هذا المدخل إلا عبر إدارة غير مركزية للشأن الثقافي.
اليسار يعرف كيف يملأ طريق التغيير بالعقبات بما في ذلك إعلان محبة خليفة حفتر قاهر الجرذان
إن الضمانة الوحيدة لنيل الدعم العمومي للثقافي هو أن يتوزع على غير أيد اليسار عبر إدارة شفافة تكون قاعدتها الجهوية القريبة من المثقف المنتج والمستهلك للثقافة. نحن نعرف وجود مثقفين مقصيين في الجهات ولديهم أفكار ومشاريع مختلفة تفوق في إبداعها ما هو سائد في العاصمة ومحيط وزارة الثقافة ونواديها المغلقة حيث يرابط اليسار التونسي كما ترابط الضباع حول جثة فيل ميت حتى تستوفيها.
متى يحصل ذلك ؟ لن يكون غدا ولا بعد غد فالباب السابع من الدستور يهدد كل نفس مركزي في الإدارة ويعرف المركزيون (وهم محافظون رجعيون بالقوة) أنهم يخسرون مواقعهم ومنافعهم الأزلية إذا تفككت السلطة التي يعيشون منها.
لقد تفككت مركزية الجامعة التونسية وتعددت لجان انتداب الجامعيين فدخل الجامعة من غير اليسار كثير وسيكون الأمر نفسه في الثقافة ولذلك ستكون هناك معركة يحمي فيها اليسار مكاسبه المالية تحت يافطة الثقافة ولن يكون هناك على سبيل المثال معرض كتاب مركزي (تقليد مستورد من فرنسا) يحكمه اليسار ويمنع غير اليسار من التكلم فيه.
هذا زمن آت ولا شك فيه فهو من أنفاس الثورة ولكن زمنه يتأخر، فاليسار يعرف كيف يملأ طريق التغيير بالعقبات بما في ذلك إعلان محبة خليفة حفتر قاهر الجرذان، فخليفة حفتر زعيم ثقافي يقود التغيير مادام يحارب أعداء اليسار.
في الأثناء وجب أن نؤكد أن اليسار التونسي لم يعد مرجعا ثقافيا لقد غربل نفسه ونخلها فكشف عن ضحالة مثيرة للشفقة ونحن نتمتع بنهايته الأخلاقية ولن نسير في جنازته.