لقد كتبت منذ عدة أشهر هنا في هذه الصحيفة، مع بداية المظاهرات في السودان التي كانت تطالب بتغيير البشير والنظام الحاكم هناك، بأنه من الضروري تغيير البشير بعد أن حكم 30 عاما والأوضاع الاقتصادية في السودان تزداد سوءا وفقرا. بل واقترحت أن تقوم الحركة الإسلامية بدور من أجل تحقيق الحرية للشعب السوداني. وقد قام البشير بعدد من المحاولات لامتصاص الغضب الشعبي بتغيير الحكومة وتعيين نائب للرئيس وكانت الجزرة وفي نفس الوقت استخدم العصا بمواجهة المتظاهرين بالعنف والقوة واستشهد العديد من أبناء السودان في هذه المظاهرات.
الجيوش تدير المراحل الانتقالية
ومن المستغرب أن عددا من المظاهرات طالبت بأن يتحمل الجيش مسؤولياته ويدير المرحلة الانتقالية ـ كما خدع المتظاهرين في مصر ورددوا أن الجيش والشعب يد واحدة ـ وبالأمس قام وزير الدفاع ونائب الرئيس بالرد على هذا المطلب بالانقلاب على البشير وتم القبض عليه واحتجازه في مكان آمن كما ذكر في البيان الذي أذاعه وانتظره السودانيون وكل من يهتم بالشان السوداني لمدة اكثر من عشر ساعات.
وخرج البيان مخيبا للآمال للملايين من السودانيين ومن أبناء العالم العربي والإسلامي. لأن قيادة الانقلاب قررت أن تحكم لمدة عاميين كمرحلة انتقالية. يتم فيها وقف العمل بالدستور وفرض حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر وحظر التجوال لمدة شهر وغير ذلك من القرارات. على أن يتم خلال العامين إعداد دستور جديد وإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية وغير ذلك من أحلام وتمنيات تضع السودان في مصاف الدول الديمقراطية العريقة.
وبدأت في مكان أخر لا يبعد كثيرا عن السودان وفي نفس القارة في الجزائر منذ ثمانية أسابيع مظاهرات تطالب برفض ما كان يسمى بالعهدة الخامسة للرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة وكانت الانتخابات الرئاسية على الابواب. وكان المطلب بعدم التجديد لبوتفليقه ـ كما كانت تطالب جميع القوى السياسية ـ بسبب مرضه وغيابه عن الوعي، بل كان في سويسرا للعلاج وقدمت أوراق ترشيحه بواسطة مندوب عنه وهو مخالف للدستور.
المشكلة ـ في اعتقادي ـ سواء في السودان أو في الجزائر وقبلها في مصر أو اليمن تعود إلى عدم ثقة القوى السياسية في الشعوب
والسؤال المطروح: هل لو كان بوتفليقة بصحة جيدة وأصغر في العمر كان الشعب
الجزائري سيوافق على العهدة الخامسة والسادسة وغيرها!!!! وتنازل بوتفليقة عن الترشيح وانسحب من الحياة السياسية بالكامل وتدخل الجيش بتوجيه تحذيرات مبطنة للشعب الجزائري وذكر بالعشرية السوداء كما يطلق عليها خلال التسعينات من القرن المنصرم. ومما يثير التعجب هو مطالبة عدد من رموز القوي السياسية بان تكون هناك مرحلة انتقالية يغادر فيها رموز حكم بوتفليقة المشهد ويتم تشكيل سلطة انتقالية من القوي السياسية ـ والبعض أضاف الجيش ـ تدير هذه المرحلة وتقوم بعمل انتخابات وغير ذلك من أجراءات تنتقل بها الجزائر إلي مصاف الدول الديمقراطية.
من هنا نجد أن المشكلة ـ في اعتقادي ـ سواء في السودان أو في الجزائر وقبلها في مصر أو اليمن تعود إلى عدم ثقة القوى السياسية في الشعوب التي تتحرك بينها، بل يمكن القول إن الشعوب ذاتها لا تثق في نفسها كما حدث وطالبت المظاهرات الشعبية في السودان بتدخل الجيش. وكما قال أحمد نظيف آخر رئيس وزراء في مصر قبل 25 يناير لأحدى القنوات الأمريكية في حوار له قبل الأحداث عندما سئل عن سبب عدم إتاحة الفرصة للشعب في مصر أو في البلاد العربية لممارسة الديمقراطية بشكلها الغربي، فأجاب أن الشعوب العربية غير ناضجة بالشكل الكافي وبالتالي لن تستطيع ممارسة الديمقراطية بشكلها المتعارف عليه.
ونحن الأن نرى القوى السياسية في الجزائر والسودان تطالب بالمثل وكانهم يؤكدون على أن الشعوب العربية غير مؤهلة فعلا لممارسة الحرية والديمقراطية وأنها في حاجة إلي الإعداد من خلال فرض مرحلة انتقالية يعتقدون أنها لإعداد الشعب وتأهيله لتلك الممارسات. وقبلها كما ذكرت حدث في مصر عندما سلم حسنى مبارك السلطة وأداره شئون البلاد للمجلس العسكري فرح المتظاهرون وتركوا الميدان ونفس المشهد حدث مع تنحى على عبدالله صالح في اليمن.
وعلى الهامش من تلك الأحداث نشاهد القنوات الخليجية سواء في الجزيرة او العربية او سكاي العربية تجاري حركة الشعوب وتقوم بالتغطية المستمرة للأحداث وكانها تؤيد حركة الشعوب ومطالب الشعوب.
الملاحظة الأولى هي وجود "العربية" و"سكاي" في نفس الخندق مع "الجزيرة" على العكس من أحداث 2011 عندما كانت الجزيرة في خندق والعربية في الخندق المضاد.
أما الملاحظة الثانية فهي بعد أن اجتمع المتخاصمان على خطوة واحدة وهى الوقوف مع الشعوب في مواجهة النظم المستبدة ـ كما يدعون ـ فهل يقفون مع شعوبهم وهم الشعب القطري أو السعودي أو الإماراتي للحصول على حقوقهم من الأنظمة الحاكمة سواء في السعودية أو قطر او الإمارات؟
بالطبع لا، ونموذج ذلك ما يحدث في السعودية وانتهاكات حقوق الإنسان سواء مع الرجال أو النساء السعوديات وتعذيبهم واحتجازهم دون وجه حق. أم انهم ـ أي تلك القنوات ـ يدافعون عن الشعوب طالما لا تمس الحكام في مواطنهم. لأننا لا نري حريات حقيقية في تلك البلاد فلا انتخابات ولا ممارسات حقيقية للديمقراطية فيها ولا توجد مجالس شورية حقيقية فيها.
الشعوب العربية والمسلمة على درجة كبيرة من الوعى والفهم وحتى لو أخطأت الشعوب فمن حقها ذلك،
ونعود مرة أخرى لأحداث الجزائر والسودان وأتساءل: لماذا لا نثق في الشعوب في تلك البلاد وباقي البلاد العربية والإسلامية لأن مجرد المطالبة بفترة انتقالية يعنى أن الشعوب لا تستطيع الاختيار الأن وإن تم تبرير ذلك بمبررات مختلفة مثل الوعى وغير ذلك من مبررات واهية.
وهذا في تقديري غير صحيح، فالشعوب العربية والمسلمة على درجة كبيرة من الوعى والفهم وحتى لو أخطأت الشعوب فمن حقها ذلك، ولكن يجب أن تختار بحرية وتحافظ على اختيارها وليتعلم من الخطأ فلن يخطئ مرة أخرى. المهم ألا يُزور اختياره خلال تلك الانتخابات ونعود جميعا إلي شرعية الصندوق ونبتعد عما قيل عن شرعية الإنجاز أو غير ذلك من شرعيات ما أنزل الله بها من سلطان.
كلمة أخيرة: المهم هو ممارسة الشعوب لحقها في الاختيار الحر سواء على المستوى البرلماني النيابي أو المستوى الرئاسي وأن تحافظ على هذا الاختيار وأن تتمسك بهذا الحق. وأن تثق القوى السياسية في شعوبها وتدعمها في ممارسة حقها الطبيعي بالاختيار وأن تسعى ليكون اختيارا حرا ولا تتآمر مع أعداء الشعوب سواء كانوا من العسكر أو غيرهم لإجهاض هذه التجربة كما حدث في مصر مع الأخوان المسلمين عام 2013 او كما حدث في الجزائر 1992 مع جبهة الإنقاذ.