لم يتأخر رد زعيم تنظيم "الدولة الإسلامية" أبو بكر البغدادي على زعم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في 22 آذار/ مارس 2019، بأنه تمكن من القضاء على التنظيم، وذلك عقب سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" على آخر جيوب التنظيم في قرية "الباغوز"، شرق نهر الفرات. وقد شكلت الباغوز محور المناظرة بين البغدادي وترامب. ففي حين يصر ترامب على أن السيطرة على الباغوز تعني نهاية التنظيم والقضاء عليه، يؤكد البغدادي على أنها بداية جديدة ونشأة مستأنفة من مشروع "الدولة" إلى حالة "المنظمة".
ظهور البغدادي في شريط مصور، في 29 نيسان/ أبريل 2019، كان منتظرا، كما كان ظهوره أول مرة متوقعا في 4 تموز/ يوليو 2014، في جامع النوري الكبير، عندما أعلن دولة "الخلافة" في العراق والشام، وذلك نظرا لأهمية الحدثين وآثارهما الاستراتيجية. فالشريط المصور الذي بثته مؤسسة الفرقان الإعلامية التابعة لتنظيم "الدولة الإسلامية"، بعنوان "في ضيافة أمير المؤمنين"، على مدى 18 دقيقة، بوجود ثلاثة من مساعديه، يشير بوضوح إلى نهاية مرحلة "الدولة" وبداية حقبة "المنظمة". فدون مواربة، يقول البغدادي في بداية الشريط إن "معركة الباغوز انتهت"، حيث تنتهي مرحلة السيطرة المكانية والحروب الكلاسيكية، وتستأنف حرب العصابات والهجمات النكائية. فحسب البغدادي، "معركة الدولة الإسلامية اليوم هي معركة استنزاف ومطاولة للعدو".
تضمن رد البغدادي على ترامب رصدا واقعيا، يؤشر على فعالية تنظيم الدولة وقدرته على شن هجمات واسعة في مناطق متعددة ومتباعدة
تضمن رد البغدادي على ترامب رصدا واقعيا، يؤشر على فعالية
تنظيم الدولة وقدرته على شن هجمات واسعة في مناطق متعددة ومتباعدة. وعلى خلاف ظهوره الأول كخليفة، يظهر البغدادي كقائد منظمة مقاتل، يرتدي سترة عملية والبندقية إلى بجانبه، حيث أكد البغدادي على أن "مقاتلي الدولة الإسلامية نفذوا 92 عملية في ثماني دول ثأرا لإخوانهم في الشام". وقد علّق على هجمات سريلانكا التي جرت في 21 نيسان/ أبريل الماضي، والهجوم الذي وقع في محافظة الزلفي، شمال السعودية، في نفس اليوم، إضافة إلى إشادته بهجمات مقاتلي التنظيم في ليبيا، ودخولهم بلدة الفقهاء الشهر الماضي.
في سبيل البرهنة على قوة تنظيم الدولة وصلابته وانتشاره، وتماسك هياكله بقيادة البغدادي وتحت إشرافه المباشر، تظهر "
تقارير شهرية" من مختلف فروع التنظيم، تتضمن ملفات الدول والأماكن التي يضع فيها تنظيم "الدولة الإسلامية" موطئ قدم، وعددها 12 ولاية، وهي: "العراق"، و"سوريا"، و"خراسان"، و"غرب أفريقيا"، و"سيناء"، و"ليبيا"، و"الصومال"، و"اليمن"، و"وسط أفريقيا"، و"القوقاز"، و"تونس"، و"تركيا". وقد أثار ملف "ولاية تركيا" تكهنات حول تحولها من منطقة عبور إلى ساحة عمل. ويشير ملف "تونس" من دون ذكر كلمة "ولاية"؛ إلى أن التنظيم يعمل على تعزيز وجوده هناك من أجل تأسيس موطئ قدم له في تونس.
وإذا كانت ولايات التنظيم الخارجية متعددة وناشطة، فإن التنظيم يولي أهمية خاصة لبعض الولايات الصاعدة في خراسان ووسط أفريقيا. فقد خص بالترحيب الصاعدين الجدد في ركب "الخلافة"، في مالي وبوركينا فاسو. وكان التنظيم قد أعلن عن وجوده هناك لأول مرة، في أواخر آذار/ مارس، عندما وجه البغدادي تحية لمن سماه بـ"أخونا أبو الوليد الصحراوي"، في إشارة لقيادة الصحراوي لفرع التنظيم في تلك المنطقة، والذي بايع البغدادي في أيار/ مايو 2015. كما أشار البغدادي إلى مبايعة جماعة جديدة له في "خراسان"، وهي إشارة إلى أفغانستان وباكستان، دون توضيحات إضافية، لكنه أشار فقط إلى انشقاقها عن مجموعات أخرى.
على خلاف تنظيم القاعدة الذي طالما امتدح وأثنى على الاحتجاجات في العالم العربي 2011، فإن البغدادي يصر على أن الاحتجاجات الجديدة التي أطاحت برئيسي السودان والجزائر سوف تكرس التبعية للاستبداد، ولن تأتي بجديد. فحسب البغدادي: "لا فائدة من اقتلاع جذور النظام السابق، فقد يظهر طغاة جدد أسوأ من الأنظمة القائمة"، وركز على أن الجهاد هو السبيل الوحيد للمضي قدما. وقد ذكّر بفوز بنيامين نتنياهو برئاسة الوزراء في إسرائيل بولاية رابعة، وهي إشارة إلى استمرار الفشل بالرهان على مشاريع السلام.
ظهور البغدادي يدشن العودة للعمل كمنظمة وليس كدولة خلافة ، ويشير إلى التحول من نمط الحروب التقليدية إلى نمط حروب العصابات
إن
ظهور البغدادي يدشن العودة للعمل كمنظمة وليس كدولة خلافة ، ويشير إلى التحول من نمط الحروب التقليدية إلى نمط حروب العصابات، وهو ما أشار إليه التنظيم في مرحلة مبكرة مع بداية خسارته مناطق سيطرته، فقد اعترف المتحدث الرسمي السابق باسم تنظيم الدولة أبو محمد العدناني في كلمة صوتية بتاريخ 23 مايو/أيار 2016 بحتمية التحول إلى حرب العصابات، وأهمية ملاذات الصحراء، حين قال: " أم تحسبين أمريكا أن الهزيمة فقدان مدينة أو خسارة أرض؟! وهل انهزمنا عندما خسرنا المدن في العراق وبتنا في الصحراء بلا مدينة ولا أرض؟ وهل سنهزم وتنتصرين إذا أخذتِ الموصل أو سرت أو الرقة أو جميع المدن وعندنا كما كنا أول حال؟ كلا؛ إن الهزيمة فقدان الإرداة والرغبة في القتال".
أحد المسائل الجوهرية التي يتغافل عنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإعلانه القضاء على تنظيم الدولة، هو الخلط بين المشروع السياسي للتنظيم كدولة وبين حالة المنظمة، فقد انتهت السيطرة المكانية الفعلية للتنظيم نهاية 2017، وانتهى مشروع "الخلافة" وحقبة الحكامة، ودخل التنظيم في حالة المنظمة مع عملية إعادة الهيكلة التي أقرها البغدادي في خطابه في 28 أيلول/سبتمبر 2017 بعنوان "وكفى بربك هاديا ونصيرا"، حيث أسست كلمة البغدادي إلى عودة التنظيم لسيرته الأولى بالحفاظ على وجوده كمنظمة تتوافر على إيديولوجبا وهيكل تنظيمي وتمويل يستند بصورة أساسية إلى حرب العصابات وتكتيكات الاستنزاف في المناطق الأكثر صعوبة في العمق الصحراوي، فضلا عن الاحتفاظ بمفارزه الأمنية وخلاياه وشبكاته المنتشرة في المدن، وهو ما أكد عليه في كلمة لاحقة بعنوان "وبشر الصابرين" في 22 آب/ أغسطس 2018.
رغم طرد تنظيم الدولة من مناطق سيطرته الحضرية المدينية، فإن التنظيم لا يزال يتمتع بقدرة على التكيّف مع التطورات
إذا كانت خبرة ترامب بدروس التاريخ ضحلة للغاية، فإن جهله بحقائق الواقع يبرهن عن عجز مطبق عن إدراك ما يحمله المستقبل. فرغم طرد تنظيم الدولة من مناطق سيطرته الحضرية المدينية، فإن التنظيم لا يزال يتمتع بقدرة على التكيّف مع التطورات. فنهاية المشروع السياسي للتنظيم وحكامته، يشير إلى نهاية مشروع "الدولة" ونظام "الخلافة"، والعودة إلى حالة "المنظمة" بالاعتماد على نهج حرب العصابات، وهو ما أكده منسّق الدبلوماسية الأمريكية لمكافحة
الإرهاب، ناثان سيلز، في وصف طبيعة الحرب ضد تنظيم "الدولة"، في مؤتمر دولي عقد على مدى يومين (27 و28 شباط/ فبراير 2018) في العاصمة الأمريكية واشنطن، ونظمته وزارة الخارجية الأمريكية والإنتربول والمعهد الدولي للعدالة وسيادة القانون، حيث قال: إن "التنظيم يتأقلم مع انتصاراتنا". وأضاف: "أعتقد أن ما نراه هو أن تنظيم
داعش يصبح لامركزيا على نحو متزايد".
يذكّر البغدادي ترامب بأن
الإعلان عن هزيمة تنظيم الدولة والقضاء عليه؛ ينم عن جهل فاضح بحقائق ودروس التاريخ، حسب تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز"، أعدته روكميني كاليماتشي، في كانون ثاني/ يناير 2019. فقد أعلن في الماضي القريب عن نهاية وتلاشي التنظيم، ليعود ويثبت خطأ السياسيين. وحسب المستشار البارز في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، "يخطئ الناس عندما يعتقدون أنه عندما تخسر مناطق فإنك ستواصل الخسارة.. عندما تخسر مناطق، يقرر الناس الأذكياء التحول نحو استراتيجية حرب العصابات، وأساليب تضم اغتيالات وكمائن وتفجيرات.. بهذه الطريقة تواجه فيها عدوك".
تعتبر حالة الإخوان المسلمين نموذجية، حيث توشك أن تصنف منظمة إرهابية عالمية، وهو ما يعزز صعود الراديكالية والعنف في العالم العربي مع تفاقم التدخلات الخارجية
تمثل المؤامرة إحدى النظريات الغرائبية المهيمنة في العالم العربي في تفسير ظهور تنظيم الدولة، خصوصا والجهادية العالمية عموما، حيث يستوي اليسار واليمين في ربطها بمؤامرة أمريكية أوروبية لإجهاض تطلعات شعوب المنطقة، وهي قراءة تعاكس التاريخ والواقع، ذلك أن صعود تنظيم الدولة جاء عقب إجهاض الثورات العربية والتنكيل بالحركات المدنية السلمية. وتعتبر حالة الإخوان المسلمين نموذجية، حيث توشك أن تصنف منظمة إرهابية عالمية، وهو
ما يعزز صعود الراديكالية والعنف في العالم العربي مع تفاقم التدخلات الخارجية. فتنظيم "الدولة الإسلامية" لا يخرج عن كونه نتاجا لوضعية عربية منقسمة وهشة، وتعبيرا عن مسارات من فشل الدولة الوطنية، فبعيدا عن التفسيرات السطحية لتنامي الإرهاب والتطرف والعنف في المنطقة. فالجذور الحقيقية لصعود تنظيم الدولة تقع ضمن مسار الثورات العربية، حيث مثلت هذه الثورات أملا كبيرا تعرض للقمع، وتنظيم الدولة ما هو سوى تعبير أيديولوجي لهذا الواقع البائس.
خلاصة القول، أن ظهور أبو بكر البغدادي يؤكد على بؤس رؤية دونالد ترامب بالقضاءعلى تنظيم الدولة، ويشير إلى أن الجذور الاجتماعية والسياسية في المنطقة كافية لتفسير بقاء التنظيم وقوته كمنظمة. فهو لا يعدو عن كونه تعبيرا أيديولوجيا لتقاطع الإمبريالية والدكتاتورية والصهيونية. فالانتشار المدمر للطائفية، والقمع المدمر للثورات العربية، والتدخلات الإقليمية والعالمية، والاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية، كل ذلك يعزز من نمو الجهادية. فالأسباب التي دفعت بالناس إلى الشوارع كانت مرتبطة بعمق بأشكال الرأسمالية في المنطقة، حسب آدم هنية. وهي نتاج عقود على إعادة الهيكلة النيوليبرالية للاقتصاد، وتأثير الأزمات العالمية وكيفية حكم الدول العربية من قبل أنظمة استبدادية، أمنية وعسكرية، بدعم من القوى الغربية.
وفي ظل منطقةٍ عاجزة أصلا عن تلبية حاجات مواطنيها اليومية، من الصعب أن نتخيّل نتيجة أخرى غير المزيد من الخراب. إذ إن الاستبداد، مقرونا بالتدهور الاقتصادي الواسع النطاق، وانهيار العدالة، وفقدان الكرامة بقبول المستعمرة الإسرائيلية كحامية للأنظمة العربيىة من مخاطر متخيلة تتمثل بالجمهورية الإيرانية والجماعات الإسلامية، يؤشر إلى أن المنطقة في طريقها إلى مزيد العنف الجهادي، كانعكاس لعنف بنيوي للدولة العربية المابعد كولونيالية.