تكثر القمامة في البلاد العربية، فنجدها مطرزة في مداخل المدن تحت شاخصة الترحيب الساخرة التي تقول: ابتسم من فضلك، أو أهلا بكم. في البلاد المتحضرة تُزرع الورود تحت لافتة الترحيب.. ابتسم أيها الزائر الضيف وأنت تغلق أنفك.. أهلا بك من غير حاسة الشم، وانسَ الضمير، أقوى حواس الإنسان المضمرة. في بعض الأحياء يحتاج الداخل إلى كمامة من رائحة القمامة. ويشتكي اللبنانيون من كثرة القمامة، هي مشكلة قومية، وهي إحدى أكبر مشاكل لبنان لصغره، مع أنه قبلة سياحية، وسبب المشكلة الأهم هو أن لبنان كانت ملعباً للصراع السياسي العربي، وقد غدت بلاد العرب كلها ملعباً ومكبّاً للنفايات. كان لبنان يوماً تسمى سويسرا الشرق. وهناك أسباب أخرى مثل التنازع الطائفي والسياسي وغياب العدل.
النفايات السياسية تنتج كل أنواع النفايات.
سألني ابن عم لي يعمل سائقاً، وهو يتابع مسرحية لدريد لحام الذي كان متنكراً في شخصية البطل غوار، وكانت تتكرر فيها عبارة "مزبلة التاريخ" التي مضى إليها دريد لحام بعد أن أظهر قناعه الحقيقي، وكانت جملة مضحكة يوماً.. عن معنى هذه الجملة، فشرحتها واجتهدتُ في إقناعه بالاستعارة، وهي نوع من أنواع التشبيه البليغة بأمثلة من البديع العربي. وسألته أين حافظ الأسد؟ قال في جهنم، قلت: ذلك في الآخرة، ولكن أين هو في الدنيا؟ قال: في مزبلة التاريخ.
وظلَّ يسأل كيف يكون للتاريخ مزبلة، فهو أمي، والتاريخ مفهوم معنوي لا يُلمس باليد، وتعبتُ في الشرح. أظن أن مصر تحوّلتْ إلى مزبلة تاريخية كبرى أيضاً، وقد استمعت للحوار الأخير مع فهمي هويدي، الذي كان ممنوعاً من الكتابة. منتجو الفضلات يكتبون في صحافتها ويسودون في إعلامها، وينبحون مثلا كلاب القرى البعيدة على الضيوف معا. استنكر هويدي وصف غيابه بالغامض، فالوصف فيه محاولة لإعادة تدوير زبالة، فهو ممنوع من الكتابة. ذكر أيضاً أنه كان يكتب في صحف الخارج، أي إنه كان منفيّ الرأس والقلم، وإن كان في مصر بالجسد. لقد حنّط السيسي الشعب المصري وهو حي.
تذكر هويدي زمن المكتوبجي الذي كان يتجسس على أفكار الناس، والأمر أسوأ حالياّ في زمن العولمة ووسائل التواصل الاجتماعي، وبلغ حدوداً تسمى ما فوق الحمراء في إنذارات الخطر، وذكر أيضاً أنه لم يكتب في صحافة الزبالة المصرية التي كانت تعمل تزويرا لصور مبارك، فتجعله يسبق الرئيس أوباما في الوفود، وأوباما يسعى للحاق به حتى ينال موافقة على سلعة أو تعميرة. ما فائدة أن تزرع وردة وسط جبل من القمامة؟
ووصف هويدي
الإعلام المصري المعاصر بالفضيحة الكبرى، وهو سيرك كبير، يتنافس فيه الإعلاميون على تقديم فقرات الإضحاك على الشعب ومن الشعب، وقال: إن سبب فساد الصحافة هو فساد
السياسة، وهي عبارات تحليلية حصيفة، لكنها تتجنب الإشارة إلى سبب الفساد الرئيس، وتحاشى أن يقول إن السمكة تفسد من رأسها، وأن مصر صارت فسيخا، فإذا فسد الرأس فسد الجسد كله.. وذكر قولاً لمحمد حسنين هيكل الذي كان سبباً في تحويل مصر إلى مقبرة غير مطمورة تفوح رائحة الجثث من زعمائها وقادتها، بأنَّ مصر مهددة بالخروج من التاريخ. وكان هيكل أحد الذين وقفوا على السّكة لدفع مصر خارج التاريخ، والتاريخ المصري الآن ينجرف في الطين.
للتاريخ أخت اسمها الجغرافيا، والأرض تسرق من تحت أقدام الشعوب العربية، والسيسي يجتهد في بيع مصر تاريخياً وجغرافياً وحضارة: تيران وصنافير وسيناء والآثار الفرعونية، وأمن مصر القومي الاستراتيجي، ونهر النيل.. وكان الرؤساء السابقون مثل السادات ومبارك يهدون من كنوز آثار مصر، ليس إلى المتاحف، بل إلى الرؤساء الفرنجة؛ تقرّباً منهم، كما كنا نفعل في الخدمة العسكرية. تصوّر أن يهدي رئيس تاريخ البلاد إلى غزاتها وأعدائها، ويقول إن حقوق الإنسان هنا ليست كما عندكم، وهو يناضل حالياً في إنكار تاريخ مصر الإسلامي.
وعوداً إلى العنوان، أعتقد أن السيسي حوّل كثيراً من الشخصيات المصرية، وإعلامها وأدباءها وصحافييها وقضاتها إلى مزبلة التاريخ، وجعلهم مهرّجين. تفوح منهم رائحة القمامة، بعضهم صار ديسبوزيل، لا يمكن إعادة استخدامه، ويجب طمره مثل النفايات النووية.
ليس المقصود بهؤلاء أمثال عدلي منصور، ولا عمرو أديب وأخيه وزوجته، المقصود بهؤلاء، الأعلام الذين كنا نتوسّم فيهم خيراً أمثال حمدين صباحي ويوسف القعيد ومحمد صبحي وشخصيات أخرى شاركت في ثورة يناير، لو عددنا شخصيات الديسبوزيبل في الفن لن نجد من الناجين سوى شخصيات تعد على الأصابع، هناك شخصيات وأعلام ستخلّد وسيذكرهم التاريخ، لكنهم حالياً في السجون أو تحت الأرض.
عرض فنان أمريكي ذات مرة فضلات بشرية معلبة في معرض فن تشكيلي.. الفضلات تتحول إلى سماد للزرع والنبات. كنا نظن أن هؤلاء الزعماء الذين يظهرون يومياً على الشاشات ويمشون في الأرض مرحاً، وهم يكادون يخرقون الجبال طولاً، فنغلق أنوفنا، مع أن الشاشة لا تنقل الروائح، لكنها تتسرب مع ذلك. لقد برهن الغرب بقدراته العلمية والسياسية والاستعمارية على مهارته في تدوير أسوأ أنواع الفضلات وتعليبها وعرضها في معارض السياسة وإكراهنا على التصفيق لها كأيقونات مزيفة.
ينسب إلى ماركس قوله في سنّة الله في خلقه بجملة "التاريخ يعود نفسه"، أحيانا على شكل مأساة وأخرى على شكل ملهاة، وقد يجمع بينهما كما في الحالة المصرية.