ليسوا أكثرية، وليسوا أغلبية، لكنهم بكل تأكيد أكبر عدداً ممن يؤيدونه في الداخل، إن كان ثمة من يؤيده إلى الآن!
خلال ما سمي بالانتخابات الرئاسية الأخيرة، لم تعلن لجنة الانتخابات نتيجة تصويت المصريين في الخارج، وكان من ذهبوا للسفارات لهذه المهمة قلة، كما قالت الصور، وتم بتعويض قلة العدد بالإفراط في استخدام الأحبال الصوتية، وبهتافات كاشفة عن الهوان والقلة العددية. فهذه انتخابات تحظر فيها الدعاية ليوم الانتخابات وداخل لجان التصويت، لكن الضرورات تبيح المحظورات.
فلم يعد أحد من الذين يؤيدونه يملك المبرر الكافي لعملية التأييد، فقد كانوا يقولون في البداية يكفي أنه خلصنا من الإخوان، وذلك في دفاع كاشف عن التسليم بأنه ليست له إنجازات تُذكر، وإذا كان غيري يستمع لهذا الدفع فيحتمي بالصمت، فقد كان يهمني مناقشة هؤلاء؛ لأنهم عندي مثل الذين يحفظون المقررات الدراسية "صماً" بدون فهم.. وماذا فعل لك الإخوان على المستوى الشخصي؟ وغالباً ما يكون السؤال مفاجأة للحافظ، فيقول إنهم كانوا خطراً على البلد. وكيف كانوا خطراً على البلد؟ لنأتي إلى بيت القصيد، لتكون الإجابة أنهم خطر على الهوية المصرية. وما هي الهوية المصرية؟! فيكون الرد مذكراً لنا بموقف التلميذ البليد، والذي كان يعلق عليه المعلم: "ووقف حمار الشيخ في العقبة يتأمل"!
لم يعد أحد من الذين يؤيدونه يملك المبرر الكافي لعملية التأييد، فقد كانوا يقولون في البداية يكفي أنه خلصنا من الإخوان، وذلك في دفاع كاشف عن التسليم بأنه ليست له إنجازات تُذكر
قدرة جن سليمان
فنظام
السيسي نفسه يعترف أنه لم يقض على الإخوان، بل على العكس من ذلك، فهو يعطي لهم قدرة ربما تفوق قدرة جن سليمان، لا سيما هذا العفريت الذي أخبره بقدرته على أن يأتي له بعرش بلقيس قبل أن يرتد إليه طرفه، فالإخوان (بحسب دعاية إعلام السيسي ولجانه الالكترونية) هم الشبح القادر على إيقاع الهزيمة به في كل مكان!
فحتى الإنجاز الوحيد لنظام السيسي، وهو "لأنه يكفي أنه خلصنا من الإخوان"، يؤكد هو بنفسه وبدون تدخل منا أنه ليس صحيحاً، وأن الاخوان لا يزالون خطراً على حكمه، ولديهم قدرة خارقة على هزيمته برغم هذه القوة الأمنية!
المصريون بطبعهم يميلون للاستقرار، ولهذا فمثلي يمكن أن يتقبل تأييد البعض للسيسي في البداية؛ لأنهم شاهدوا انفلاتاً أمنياً لم يستطع نظام الرئيس محمد مرسي التصدي له، وهم ببساطة لا يعنيهم إن كان هذا الانفلات بفعل فاعل أم لا، بل إن من الناس من لا توجد لديهم مشكلة في أن يحكم من يقف وراء الانفلات، ما دام يملك القدرة على إيقافه. لكن الانفلات والخوف من عودته، لا يزال قائماً، فليس بالقمع وحده تستقر البلاد، فضلاً عن أن الأمن كله مشغول بحماية الحاكم، وذلك على حساب الأمن العام!
الانفلات والخوف من عودته، لا يزال قائماً، فليس بالقمع وحده تستقر البلاد، فضلاً عن أن الأمن كله مشغول بحماية الحاكم، وذلك على حساب الأمن العام!
ولهذا يدرك النظام القائم على "الحاكم الفرد"، الخطر ولو من النظام البائد، ويرى في تحركات شعبية لنجلي الرئيس المخلوع مما يمثل خطراً عليه، فيصدر التهديد للابن الأصغر (لطموحه السياسي) بأن يلزم بيته وإلا؟!
وفي أجواء قلقة كهذه، فإن شعبية السيسي في الداخل هي في الحضيض، وحتى الفئات التي استفادت من حكمه بالمقارنة بغيرها، تدرك أنها بما استفادت لا تستطيع أن تجابه متطلبات الحياة، في ظل هذا الارتفاع المبالغ فيه في الأسعار، وودت لو غادر وجاء غيره من ذات الفصيلة ليحافظ من ناحية على هذه المكتسبات، ويتصدى لقسوة الحياة بجدية؛ لأنه رغم "الموات السياسي" فإن أحداً لا يمكنه أن يتوقع ماذا يحدث غداً.
هؤلاء قد يزعجهم أن يعود الإخوان للحكم، لكن السيسي ليس هو البديل الوحيد أو الأفضل في معسكرهم، وحتى لو نجح في التهدئة مع الإخوان، فسيكون مثل البشير الذي دان له السودان، وفي النهاية جاءته الثورة من حيث لا يحتسب، ومن قوى لم تكن على البال أو على الخاطر، ولم تكن رقماً في معادلة السياسة السودانية!
الوطنية الفارغة:
ومع ذلك، فإن نسبة المصريين في الخارج المنحازون للسيسي أكثر عند المقارنة، ويعبّرون عن ذلك، سواء في الجلسات الخاصة أو على عبر صفحات التواصل الاجتماعي، وهو أمر لا يجوز إخضاعه للتحليل السياسي، ففهمه ينبغي أن يكون في إطار علم دراسة الإنسان (الأنثروبولوجيا)، وذلك على النحو التالي:
أولاً: الادعاء الفارغ للوطنية، تماماً كما يرى البعض في الحماس بالتشجيع للمنتخب القومي لكرة القدم (بالذات وليس غيرها) هى الوطنية، وعندما تفتقد في ميادينها الحقيقية من خلال الحفاظ على التراب الوطني مثلاً، يكون رأس الأمر وعموده وذروة سنامه في الملاعب، ولا كلام عن التفريط في تيران وصنافير مثلاً. ورأينا كيف أن دار الإفتاء المصرية تخرج عن مقتضى الواجب والوظيفي لتدعو المصريين إلى تأييد المنتخب الوطني في مباريات كأس أفريقيا. ومن المصريين في الخارج من يعتبرون تأييدهم للسلطة هو دليل على وطينتهم، وتأكيد على أنهم لم يفقدوا صلتهم بالوطن الأم، وهو نوع من القبلية، عندما تختزل القبيلة في شخص كبيرها، والوطنية في الحاكم.
ثانياً: قلة الوعي السياسي، فالثورة حملت الجميع على أن يهتموا بالسياسة، ولأن الكلام كان محرما من قبل، فكانت الأغلبية تبعد عن الشر وتغني له، والذين وجدوا أنفسهم أمام مناخ من الحرية غير مسبوق، فتعلموا السياسة من إعلاميين جهلة، فأساتذة في الجامعات وعوام على حد سواء، كانوا يجلسون من توفيق عكاشة أمام الشاشة مجلس التلميذ من الأستاذ، فتأثروا به، لكنهم في النهاية، وعندما وقع الانقلاب، عادت السياسة محرمة، فاندفعوا يؤيدون السيسي جهلا وإيثاراً للسلامة.
نسبة المصريين في الخارج المنحازون للسيسي أكثر عند المقارنة، ويعبّرون عن ذلك، سواء في الجلسات الخاصة أو على عبر صفحات التواصل الاجتماعي، وهو أمر لا يجوز إخضاعه للتحليل السياسي، ففهمه ينبغي أن يكون في إطار علم دراسة الإنسان
ثالثاً: ويكون حضور مبدأ إيثار السلامة، إذا كان "المصري المغترب"، في بلد يصنفه النظام العسكري كعدو مثل قطر، فيكون إعلان التأييد بهدف التمكين من المرور الآمن عبر مطار القاهرة، وهم في مأمن من أنهم لن يدفعوا ثمن هذا التأييد ولن يلاموا عليه في أماكن عملهم. وقد تجد أحدهم يبالغ في التأييد، وقد يندفع مندداً ببلد يقف ضد بلده، فيبدو الأمر مفاجئاً له تماما إذا سألته: وما الذي يضطرك للاستمرار في بلد يتآمر على حكمك الرشيد؟ فلا تجد صداً أو رداً.
رابعاً: إن المصريين في الخارج لا يتأثرون بارتفاع الأسعار وبؤس الحياة في الداخل، بل إن هذا البؤس رتب لهم أوضاعاً اجتماعية كانت قد انتهت في الربع قرن الأخير، عندما كان المصري الذي يعمل في الخارج يأتي من هناك وهو يحمل "التلفزيون الملون"، ويجلس على المقهى فيحاسب "على المشاريب" للجميع، مما يعطيه قيمة مضافة، فيمنحوه لقب "الحاج" تأكيدا للترقي الطبقي ولو لم يكن قادماً من بلاد الحجاز ولو كان معاراً في اليمن مثلاً!
إن مثلي لا يتفهم مثلاً كيف لمصري يعمل في قطر، ثم يؤيد السيسي، الذي كانت مشاركته في الحصار، تابعاً، سبباً في تكبد هذا المغترب وأسرته عناء السفر عبر دولة وسيطة "ترانزيت"، وفي أن يدفع ثمن تذكرة السفر مضاعفا. فإذا كان يقر بهذا الحصار باعتباره لدولة عدو، فلماذا يستمر عند الأعداء؟ ولماذا لا يعود ليشارك في عملية البناء والتشييد، ويتحمل جزءاً من الثمن الذي يدفعه المصريون في الداخل من أجل بناء البلد؟!
إن الدليل على أنها الانتهازية في أردأ معانيها؛ أن هؤلاء لا يغامرون بأموالهم في أي مشروع من المشروعات القومية التي بناها النظام!
فكم مصري في الخارج من المؤيدين للسيسي من منطلقات وطنية، شارك بأمواله في مشروع تفريعة قناة السويس؟!
وكم واحد منهم اشترى وحدة سكنية في العاصمة الإدارية الجديدة، للمساهمة في إنجاح هذا المشروع العملاق؟
وكم مصري من هؤلاء تبرع لصندوق تحيا مثلا بدولار واحد؟!
إنها حنية الوز، لا وطنية ولا بطيخ!