هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
هناك معركة كبرى حقيقية تجري في العالم منذ بدء القرن الحادي والعشرين. هذه المعركة باختصار هي معركة الإجابة عن الأسئلة الكبرى التي تواجه الإنسانية بعد ظهور فشل النموذج الشيوعي، وكذلك تعثر التجربة الليبرالية، وتفشي ظواهر اليمين المتطرف والعنف العنصري في الدول التي كانت تدعي أنها قد ارتقت إلى أعلى درجات سلم الحضارة، وأن التاريخ قد انتهى بانتصارها الحتمي.
ظهرت دول جديدة في معسكرات التقدم الاقتصادي كالصين والهند وتركيا وماليزيا تريد لها مكانا في الحوار حول مستقبل العالم أيضا. انطلقت ثورات الربيع العربي في بداية العقد الثاني لتؤكد أن العالم العربي أيضا يريد أن يشارك في التغيرات الحادثة في عالم القرن الحادي والعشرين.
هذه التغيرات التي شهدها العالم في العقدين الماضيين أظهرت شكلا من أشكال التعاون الدولي لمواجهة أو "احتواء العالم المسلم" تحديدا. ظهر مشروع غربي متكامل إعلاميا وفكريا وثقافيا وحتى عسكريا.
هذا المشروع محدد المعالم والهدف، وهو "احتواء العالم المسلم". بدأت معالم هذه المواجهة تتحدد في الغرب بعد سقوط المعسكر الشرقي الشيوعي. بدأ الحديث عن "الخطر الأخضر"، أو صعود العالم المسلم.
البعض رأى أن توحيد الغرب يقتضي وجود خصم خارجي، والإسلام والعالم المسلم يمكن أن يكون ذلك الخصم. البعض الآخر رأى أن حقيقة الصراع القادم سيكون بين رؤية الغرب للعالم، في مقابل رؤية العالم المسلم له. وظهر الحديث عن الحضارات والحوار بينها أو المواجهة.
حوار الحضارات أم صدامها .. أم توازنها؟
رغم أن الغرب يقدم نفسه للعالم على أنه الخيار الحضاري الصحيح، بل والوحيد لمستقبل البشرية، إلا أن الرصيد الفكري والأخلاقي للغرب يلقي بالكثير من الشكوك لدى بقية شعوب العالم حول قيمة أو جدوى هذا الخيار.
وأظهرت تداعيات أحداث سبتمبر 2001م أن أمريكا تسعى إلى قيادة المعسكر الغربي في مشروع اختيار العالم الإسلامي بصفته "العدو الخارجي" القادم، والذي يمكن أن يستخدم لاستمرار توحيد جهود الغرب نحو المزيد من السيطرة والهيمنة الاقتصادية والفكرية على شعوب العالم.
وبما أن العالم الإسلامي لا يمثل قوة عظمى، أو دولة بعينها، فقد تحول اهتمام الفكر السياسي الغربي والأمريكي تحديدا من العلاقة بين القوى العظمى إلى العلاقة بين الحضارات، وذلك حتى يمكن إدراج العالم الإسلامي بوصفه "كيانا موحدا" أو خطرا جديدا يواجه الحضارة الغربية المقابلة.
ورغم أن هذا التصور يختزل، بل ويخالف الكثير من الحقائق على أرض الواقع، إلا أن التيارات الفكرية قد تلقفت الطعم السياسي ووقعت ضحية له في أغلب أطروحاتها. فلا العالم الإسلامي موحد في مواجهة الغرب، ولا الدول الغربية تشترك في تصورات حضارية موحدة أيضا نحو بقية شعوب العالم.
ولكن أنصار فكرة استمرار الصراعات في العالم، وجدوا أن العالم الإسلامي مع تنامي ظواهر المقاومة للظلم فيه، وأحيانا استخدام العنف المسلح أيضا، يقدم الخيار الأمثل للمرحلة القادمة من استمرار مشروع سلب ونهب خيرات العالم.
تحول موضوع العلاقة بين الحضارات إلى موضوع الساعة لدى المفكرين في الشرق والغرب معا. هناك من ينادي بالحوار كوسيلة للبقاء أو الهيمنة أو التأثير على الآخر، أو تجنب المواجهة. وفريق آخر يدعو إلى الصدام والمواجهة كنتيجة حتمية ووحيدة لحسم من سينتصر في معركة قيادة البشرية، أو من سيهيمن على مسيرتها الفكرية والثقافية.
الغريب أن معظم الحديث الغربي حول حوار الحضارات تركز فقط على الحوار بين الغرب وبين العالم المسلم رغم وجود أفكار وأطروحات أخرى حضارية في الهند والصين وشمال أوربا وجنوب شرق آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية. مع هذا اهتم الغرب فقط بالحوار الحضاري المواجه للإسلام والعالم المسلم.
ظهرت حدة هذا الخلاف الفكري بين أنصار كلا المعسكرين مع تنامي ظاهرة المد الإسلامي، وظهور العالم المسلم على مسرح أحداث العالم بوصفه الجبهة التي تمانع في أن يحقق الغرب الانتصار النهائي الفكري والمدني له، وينتهي التاريخ بتقديم الليبرالية الديمقراطية والنظام الرأسمالي كخيار وحيد لشعوب العالم للسير على درب التقدم الإنساني مدنيا وفكريا أيضا. وتم استخدام مصطلح "حوار الحضارات" وكأنه المخرج من الأزمة المتوقعة أو القادمة أو المتوهمة. وأن البديل الوحيد في حال عدم الحوار .. هو الصدام بين الحضارات.
لكن تاريخ الحضارات يشهد أن كلا من الحوار والصدام هما حالات استثنائية في العلاقة بين الأمم، وليسا إلا وسائل تستخدم من أجل تحقيق أهداف أسمى في نظر أبناء تلك الحضارات والشعوب. العالم يحتاج إلى رؤية جديدة تقوم على مبدأ "توازن الحضارات" في مقابل كلا من فكرة الصدام أو الحوار بينها، والتوازن يعني وجود قوى متقاربة القوة في العالم، وهو ما يرفض الغرب الإقرار به سواء فكريا أو اقتصاديا.
احتواء الإسلام والعالم المسلم
خلال عقدين من الزمان ظهر أن النقاشات الفكرية عن حوار الحضارات أو صدامها لم تحقق أية نتائج عملية على أرض الواقع. ما ظهر في الحقيقة هو أن مواجهة صعود العالم المسلم أصبحت أحد أهم معارك الغرب المعاصر فكريا وعمليا أيضا.
في البداية بدأت أمريكا هذه المعركة فعليا مع أحداث سبتمبر 2001. أعلنت أمريكا أنها في معركة مصيرية لمواجهة ما أسمته بالإرهاب الإسلامي. لكن التصرفات الأمريكية أظهرت أن الأمر لا يتوقف عند الإرهاب الذي لا دين له، ولكنه انتقل إلى محاولة مستمرة لاحتواء صعود التصورات المسلمة لتنافس الرؤى الغربية في تقديم الإجابات الحقيقية عن الأسئلة الكبرى التي تواجه الإنسانية.
تشكلت فكرة احتواء الإسلام واحتواء العالم المسلم لتصبح هاجسا غربيا انتقل من أمريكا ليتبناه اليمين المتطرف في أوربا.. لاحتواء تنامي التواجد المسلم في أوربا، وتبعتهم روسيا في محاولتها أيضا لتحجيم واحتواء التواجد المسلم في أوربا الشرقية والبلقان وجمهوريات وسط آسيا .. وبدأت تتشكل جبهة في الشمال تتوحد في مواجهة العالم المسلم، ومحاولة تحجيم أي رغبات حقيقية في التحرر أو الاستقلال أو تقديم رؤى جديدة للعالم في التعامل مع المشكلات التي تواجهها الإنسانية.
في المقابل، نما بين الدول المغلوبة على أمرها من ناحية، والشعوب التي تتمنى أن يسود السلام في العالم من ناحية أخرى فكرة "حوار الحضارات" كبديل لتخفيف حدة المواجهة، أو تأجيلها، أو الخلاص منها. ونشط المفكرون من أنصار هذه الفكرة في عالمنا ــ بدعم الكثير من الحكومات الإسلامية والعربية ــ في الدعوة إلى الحوار وقيم التسامح وأهمية قبول الآخر، وضرورة قبول مفاهيم التعددية السياسية والفكرية والدينية.
ورغم أن أفكار الدعوة إلى الحوار والتسامح والسلام هي أفكار وقيم تعتنقها معظم شعوب العالم، وعلى رأسها شعوب العالم المسلم، إلا أن الملاحظ أنها قيم يتم توظيفها في هذه المرحلة لتحجيم المقاومة من طرف العالم المسلم، وإشعاره بالذنب والجريمة لأن الأعمال المسلحة التي ارتكبت في الأعوام الأخيرة كانت ضد مصالح غربية، وتمت من قبل أنصار التيار الإسلامي.
لذلك، اهتم السياسيون في أمريكا ثم أوربا ومن يساندها من دول الغرب باستثمار فكرة الحوار بين الحضارات. وبدأت أمريكا في دعم مشروعات "حوار الحضارات" بقوة كوسيلة مؤثرة في تهميش "العدو الإسلامي القادم"، وإذلاله ثقافيا وفكريا، والتمهيد بذلك ــ من طريق آخر ــ للمزيد من الهيمنة بأساليب غير مباشرة.
أصبح واقع الحديث حول العلاقة بين الحضارات ينحصر بين تياري الحوار والصدام بشكل كبير. يحاول المفكرون من أنصار "حوار الحضارات" الحفاظ على نقاء الفكرة وجدواها، بينما يحاول أنصار "صدام الحضارات" التأكيد على عمليتها، وأهميتها للغرب لحسم الصراع على قيادة البشرية، ويراها بعض أنصار التيار الإسلامي أيضا كوسيلة وحيدة لهزيمة الغرب، ونهضة الأمة الإسلامية من جديد.
مواجهة الاحتواء
هناك مشروع بدأ في العالم، وتزعمته أمريكا يهدف إلى "احتواء العالم المسلم". البداية كانت أطروحات فكرية حول صدام الحضارات ونهاية التاريخ. تبع ذلك خطوات عملية لتحجيم نهضة العالم المسلم عبر الاحتلال العسكري المباشر، وتفتيت الدول، وحصارها اقتصاديا وفكريا، والدعوة المستمرة إلى "تعديل الإسلام" كي يلائم المزاج الغربي المعاصر تحت شعارات الوسطية او الاعتدال.
وتم احتلال أفغانستان وفرض العقوبات على باكستان وإيران، والجهد المستمر في تحجيم تركيا وماليزيا وإندونيسيا، ومنعهم ما أمكن من النمو الاقتصادي أو الحراك الاجتماعي المستقل عن منظومة الغرب الفكرية والثقافية.
وعندما انتفض العالم العربي في ثورات الربيع العربي، تم التعامل مع هذه الثورات باستخدام العملاء والمواجهات والأنظمة القمعية والاستبدادية من أجل القضاء على أثر تلك الثورات، وتحويلها من حلم عربي في مستقبل أفضل للحرية والعدل، إلى كابوس مظلم يستدعي قبول الأنظمة القمعية من جديد، ويهاجم الإسلام بعنف، ويحول كل من يرتبط بالفكرة الإسلامية إلى عدو للإنسانية، وإلى داعية للتطرف والعنصرية والتخلف.
وسكت العالم على الممارسات الإجرامية التي تقوم بها روسيا من ناحية في البلقان وسوريا ودول وسط آسيا، وعلى الممارسات الصينية الظالمة في حق الأقليات المسلمة في الصين، والتي تصل إلى أكثر من 100 مليون نسمة، وسكت العالم على ما يحدث في مينامار ضد المسلمين هناك من تطهير عرقي لا خلاف عليه، وكذلك الحال مؤخرا في الهند وما تقوم به تجاه المسلمين في داخل الهند، وفي كشمير.
مشروع "احتواء العالم المسلم" يمضي على قدم وساق، وفي المقابل فإن العالم المسلم منشغل بنفي الفكرة أو تسفيه احتمال حدوثها أو التقليل من مخاطرها أو عواقبها على الأمة وعلى الشعوب. لا يمكن مواجهة مشروع احتواء بثقافة "الإنكار". العالم المسلم بحاجة إلى مشروع مواز .. مشروع مواجه لمحاولات الاحتواء. العالم المسلم لا تتم محاولة احتوائه لأنه عالم متخلف، ولكن لأنه عالم صاعد.
التركيبة السكانية مع الوعي الحضاري مع توفر الإمكانات الاقتصادية ومع وجود منظومة فكرية عقدية صلبة .. كل ذلك يشير إلى أن العالم المسلم صاعد، وأن التململ الحادث، بل والمراهقة الفكرية أو الأعمال غير السلمية في بعض الأحيان إنما هي دليل انتقال من حالة الخمول إلى حالة اليقظة.
الربيع العربي مع صعود تركيا مع تقدم ماليزيا وأندونيسيا، واهتمام دول الخليج وباكستان والمغرب العربي بالانتقال الحضاري أيضا كلها تشير إلى أن الأمة المسلمة تستيقظ من السبات، وترفض الاستكانة للواقع المؤلم على أبنائها، والظلم الواقع على أبناء العالم أيضا.
الهلال الصاعد
لا يمكن مواجهة مشروع "احتواء" بمجرد النقاش أو التفكير أو الحوار. لابد أن يكون للأمة مشروعا بديلا يعبر عن حالة الصعود. هذا المشروع يجب أن تتكاتف من أجل نجاحه الدول والشعوب والأفراد.
مقابل "احتواء العالم المسلم" يوجد "هلال صاعد" يقدم تصورا حضاريا مختلفا عن المشروع الغربي التي يعاني في بنيته الفكرية والثقافية، ويحاول منع ظهور أي بديل.
"الهلال الصاعد" يجب أن يكون مشروعا يرفع الظلم عن الإنسانية، وليس عن العالم المسلم فقط.
"الهلال الصاعد" يجب أن يتكاتف معه كل أنصار العدل والحرية في عالم اليوم والغد.
"الهلال الصاعد" يمكن أن يقدم الرصيد الحضاري للأمة المسلمة في التنافس حول "توازن الحضارات".
العلاقة بين الحضارات لا تبنى بالضرورة على الوسائل، وإنما على المبادئ والغايات. إن الحوار والصدام ليسا إلا وسائل تؤثر في العلاقة بين الحضارات، ولكنها لا تبني هذه العلاقة بالضرورة أو تهدمها.
وسواء كانت هذه الوسائل سلمية كالحوار والتفاهم والتعارف، أو غير مسالمة كالصدام والمواجهة، فهي ليست إلا وسائل يمكن للأطراف المتقابلة استخدامها في الظروف التي تحتم ذلك. لكن الأصل في العلاقات بين الحضارات والشعوب يقوم على مبدأ آخر، وهو مبدأ التوازن أو التدافع، وهو المبدأ الذي حكم العلاقة بين الحضارات تاريخيا منذ بدء الخليقة.
من حق الأمة المسلمة أن تقاوم محاولات الاحتواء، وأن تقدم مشروعا متكاملا لعالم الغد تحت شعار "الهلال الصاعد" بديلا عن المشروعات الأخرى في العالم، والتي لم تحقق للإنسانية ما تتمناه، وهذا حديث يطول، وسنحاول التعرض له عبر المزيد من النقاش والحوار والمقالات.