ناقشنا في مقالنا السابق، النص الأول الوارد في الرجم، من السنة القولية، وهو حديث: "لا يحل دم امرئ إلا بإحدى ثلاث"، ووقفنا معه وقفة من حيث أسانيده، ومن حيث متنه وفقهه، والحديث الثاني: هو قوله صلى الله عليه وسلم: "وللعاهر الحجر"، وقد وردت هذه الجملة في حديثين شريفين للنبي صلى الله عليه وسلم، وروايات مختلفة، لكنا نذكر أهم حديثين وردت فيهما الجملة:
الأول ـ "كان عتبة عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص: أن ابن وليدة زمعة مني، فاقبضه إليك، فلما كان عام الفتح: أخذه سعد فقال: ابن أخي، عهد إلي فيه، فقام عبد بن زمعة فقال: أخي، وابن وليدة أبي، ولد على فراشه، فتساوقا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال سعد: يا رسول الله ابن أخي، قد كان عهد إلي فيه، فقال عبد بن زمعة: أخي، وابن وليدة أبي، ولد على فراشه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش، وللعاهر الحجر، ثم قال لسودة بنت زمعة: "احتجبي منه، لما رأى من شبهه بعتبة، فما رآها حتى لقي الله" (1).
والحديث الآخر ـ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " الولد للفراش، وللعاهر الحجر" (2).
وزمعة هو أبو السيدة سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وقد مات وترك ولدا من جارية له، و كان أخو سعد بن أبي وقاص، أخبره أنه زنى بهذه الجارية، وأن الولد منه لا من سيدها. فلما احتكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الولد للفراش وللعاهر الحجر".
فقه الحديث ومعناه:
هذان حديثان صحيحان، لا شك في صحة سندهما، وبقي الوقوف عند قوله صلى الله عليه وسلم: "وللعاهر الحجر" وهل مقصود به الرجم، أم مقصود به شيء آخر؟ فكما ذكرنا أن أي حديث لا نقف عند سنده فقط، بل لا بد من مناقشة متنه كذلك، وهذا الحديث لأهميته في موضوع (الرجم) كان لا بد من نقاشه، من حيث سنده، وهو صحيح، ومن حيث متنه، وفيه عدة إشكالات مهمة.
ربما يتبادر إلى ذهن القارئ أو الباحث لأول وهلة عند قراءة الحديث أن المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم: "وللعاهر الحجر": أي رميه بالحجارة، وهو ما اختلف فيه الفقهاء والمحدثون، ومن تكلموا في قضية الرجم من حيث التأصيل والتدليل عليها، يقول ابن حجر رحمه الله: (وقوله: "وللعاهر الحجر" أي للزاني الخيبة والحرمان، والعهر بفتحتين الزنا، وقيل يختص بالليل، ومعنى الخيبة هنا: حرمان الولد الذي يدعيه، وجرت عادة العرب أن تقول لمن خاب: "له الحجر، وبفيه الحجر والتراب" (3) ونحو ذلك (4).
معنى قوله: "للعاهر الحجر" أي: لا حظ له في نسب الولد، كما تقول: له التراب، أي لا شيء له)
وقيل: المراد بالحجر هنا: أنه يرجم، قال النووي: وهو ضعيف؛ لأن الرجم مختص بالمحصن، ولأنه لا يلزم من رجمه نفي الولد، والخبر إنما سيق لنفي الولد (5). وقال السبكي: والأول أشبه بمساق الحديث لتعم الخيبة كل زان، ودليل الرجم، مأخوذ من موضع آخر فلا حاجة للتخصيص من غير دليل (6).
قال ابن حجر: ويؤيد الأول أيضا، ما أخرجه أبو أحمد الحاكم من حديث زيد بن أرقم رفعه: "الولد للفراش، وفي فم العاهر الحجر"، وفي حديث ابن عمر عند ابن حبان: "الولد للفراش، وبفي العاهر الأثلب"، بمثلثة ثم موحدة بينهما لام، وبفتح أوله وثالثه، ويكسران، قيل: هو الحجر، وقيل: دقاقه، وقيل: التراب)(7).
وقال الإمام البغوي: (وقوله: "للعاهر الحجر". فالعاهر: الزاني، يقال: عهر إليها يعهر: إذا أتاها للفجور، والعهر: الزنا، وقيل: أراد بالحجر الرجم بالحجارة..
وقيل: ليس كذلك، لأنه ليس كل زان يرجم، وإنما يرجم بعض الزناة، وهو المحصن، وإنما معنى الحجر هنا: الخيبة والحرمان، يعني: لا حظ له في النسب، كقول الرجل لمن خيبه وآيسه من الشيء: ليس لك غير التراب، وما في يدك إلا الحجر..
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "إن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه ترابا". وأراد به الحرمان والخيبة، وقد كان بعض السلف يرى أن يوضع التراب في كفه جريا على ظاهر الحديث) (8).
وقال ابن عبد الحق اليفرني: (ومن بديع لغة العرب قولهم: "بفيه الحجر": إذا صدر منه كلام ينكره السامع، فيخصون الدعاء بالموضع الذي جرى منه الخنى خاصة، فإذا لم يختص ذلك بعضو منه قالوا: "له الحجر" و"للعاهر الحجر"، ويحتمل بعد تقرير الشرع قوله صلى الله عليه وسلم: "وللعاهر الحجر" الحقيقة؛ إذ ذاك حكمه، والمجاز يريد: الخيبة، ويؤخذ حكمه من حيث تقرر) (9).
من بديع لغة العرب قولهم: "بفيه الحجر": إذا صدر منه كلام ينكره السامع، فيخصون الدعاء بالموضع الذي جرى منه الخنى خاصة
وقال ابن الجوزي والعيني: (ومعنى قوله: "للعاهر الحجر" أي: لا حظ له في نسب الولد، كما تقول: له التراب، أي لا شيء له) (10). وهذا المعنى يؤيده حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "قال: "تنكح النساء لأربع؛ لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك" (11)، ومعنى تربت يداك هنا: قال ابن الأثير في "النهاية": ترب الرجل: اذا افتقر، أي: لصق بالتراب، وأترب: إذا استغنى، وهذه الكلمة جارية على ألسنة العرب لا يريدون بها الدعاء على المخاطب ولا وقوع الأمر به، كما يقولون: قاتله الله.
وقال القنازعي: (وهذه كلمة تقولها العرب لمن طلب شيئا ليس هو له، تقول: بفيك الحجر) (12).
ويقول أحمد البنا الساعاتي: (وقيل المراد بالحجر هنا: أنه يرجم بالحجارة، وهذا ضعيف لأنه ليس كل زان يرجم، وإنما يرجم المحصن خاصة، ولأنه لا يلزم منه رجمه نفي الولد عنه، والحديث إنما ورد في نفي الولد عنه) (13).
وقد قال ابن رسلان في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: "وللعاهر الحجر" رأيا آخر، غير ما ذكره العلماء السابقون، فقال: (وقيل: المراد بالعاهر في الحديث عتبة بن أبي وقاص الذي كسر رباعية النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، فإن ذلك مات قبل الفتح كافرًا) (14).
فالحديث هنا ليس صريحا ولا بيِّنًا، في حد الرجم للزاني هنا، بل لم نجد فقيها ممن يقولون بأن الرجم حد يستشهد بالحديث، ولا يغيب عنهم هذا النص، فهو موجود في مسألة: دعوى النسب، وهو باب مهم في الفقه، لا يخلو منه مذهب فقهي، ولا كتاب فقهي مذهبي، أو في الفقه المقارن، وإن استدل به البعض، ولكن ضعفه الفقهاء.
إشكال كبير في الحديث:
وبقي هنا إشكال كبير أثير في الحديث الشريف، في متنه، فالنبي صلى الله عليه وسلم أعطى الولد لابن زمعة، أي اعترف له بالنسب، ومع ذلك طلب من زوجه السيدة سودة، أن تحتجب منه، ولم تره حتى ماتت، فكيف يقر له النبي صلى الله عليه وسلم بالفراش والنسب لزمعة، ويرث منه، وهو يرى شبه الولد أقرب لأخي سعد بن أبي وقاص، ولذا أمر زوجه السيدة سودة أن تحتجب منه، فلم يحكم بأنه أخوها، وإلا لأجاز لها أن تراه ويراها، وهو إشكال كبير في متن الحديث، حاول العلماء حل هذا الإشكال، ولهم فيه كلام كثير، وبخاصة الإمام الطحاوي في كتابه: (شرح مشكل الآثار) في حوالي عشرين صفحة (15).
ويرى الدكتور محمد أنس سرميني: أن أولى هذه الأجوبة: أن يقال: إن خللا وقع في اللفظ؛ فلا بُدَّ من تعديله ليستقيم المعنى، فبدلا من قوله: هو لك يا عبد بن زمعة؛ يقال: هو لك يا سعيد بن أبي وقاص؛ عندها ينسجم الحكم مع شبه العبد بعتبة بن أبي وقاص، ومع أمر سودة بالاحتجاب منه، وإلا فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم بالولد لابن زمعة، فلا معنى إذن بإثبات الشبه بعتبة لا به، ولكان قد أجاز لسودة أن لا تحتجب منه على أنه ابن أخيها، فهذان دليلان صريحان في المسألة يصححا ما وقع فيه الرواة في نقل المسألة.
ويؤكد هذا من جهة الإسناد حديث سعيد بن منصور عند أبي داود، وليس فيها اللفظ المختلف فيه أصلا، بما يشير إلى احتمال إدراجه وهمًا في المتن (16).
الهوامش:
1 ـ رواه البخاري (6749) و(6817) عن عائشة رضي الله عنها.
2 ـ رواه البخاري (6750) و(6818) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
3 ـ انظر: فتح الباري (12/36).
4 ـ انظر: التوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن (31/169).
5 ـ انظر: صحيح مسلم بشرح النووي (10/37).
6 ـ انظر: الإبهاج للسبكي (2/188) ومصابيح الجامع لابن الدماميني (4/262،261).
7 ـ انظر: فتح الباري لابن حجر (12/37،36).
8 ـ انظر: شرح السنة للبغوي (9/283،282).
9 ـ انظر: الاقتضاب في غريب الموطأ وإعرابه على الأبواب لليفرني (2/123)..
10 ـ انظر: كشف المشكل من حديث الصحيحين لابن الجوزي (3/512) وعمدة القاري للعيني (17/290).
11 ـ رواه البخاري (5090)، ومسلم (1466) وأبو داود (2047). وأخرجه أحمد (9521)، والنسائي (3230)، وابن ماجه (1858)، وابن حبان (4036) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
12 ـ انظر: تفسير الموطأ لأبي المظفر القنازعي (2/518).
13 ـ انظر: الفتح الرباني للساعاتي (17/35).
14 ـ انظر: شرح سنن أبي داود لابن رسلان (10/128).
15 ـ انظر: شرح مشكل الآثار للطحاوي (11/5 ـ 24).
16 ـ انظر: العقوبات التي استقلت بتشريعها السنة النبوية للدكتور محمد أنس سرميني ص: 405.
[email protected]