هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" تقريرا لمراسلتها في بيروت فيفيان يي، تتحدث فيه عن رحلة قامت بها إلى سوريا
وتصف يي في تقريرها، الذي ترجمته "عربي21"، مشاهداتها مع اثنين من صحافيي "نيويورك تايمز"، في زيارة على مدى ثمانية أيام إلى سوريا، وفي ما يأتي التقرير كاملا:
عندما مشينا بحذر حول الأنقاض في دوما أخذنا الأمر شيئا من الوقت لندرك ما كان مفقودا، لقد رأينا نساء تحمل ما اشترته من السوق من حاجيات، وشيوخ يمرون على دراجات نارية، وأطفالا هزيلين يحملون أوعية مليئة بالماء للبيوت، لكن كان هناك القليل من الشباب.
فمنهم من قتل في الحرب، ومنهم من يقبع في السجون، ومنهم من هاجر خارج سوريا، وأصبح على الناجين، مثل ام خليل البالغة من العمر 59 عاما، أن يتعاملوا مع هذا الغياب.
لقد قتل ثلاثة من أبنائها، وخضع الرابع للتعذيب على أيدي المتطرفين، واختفى الخامس في الاعتقال الحكومي، واضطرت زوجات أبنائها للقيام بالعمل لكسب قوت العائلة، في الوقت الذي تقوم فيه هي برعاية أحفادها دون زوجها الذي قتل في غارة جوية.
وتقول أم خليل في الوقت الذي كانت تجلس فيه في شقة تابعة لأحد معارفها، حيث تعيش العائلة: "أحيانا أجلس وأفكر، كيف حصل هذا؟.. لقد كان لي أبناء يعملون، وكان كل شيء طبيعي وفجأة فقدتهم، وكان لي زوج، فقدته أيضا، وليس لدي جواب، سامح الله من كان سببا في هذا".
ثم انفجرت قائلة: "غفر لهم أم لم يغفر لهم، ما الفرق؟ أتمنى أن أجد الشخص الذي دمر هذه المدينة.. وسأقتله".
وبعد ثماني سنوات من الحرب الأهلية تسيطر الحكومة السورية على معظم البلاد، وبدت يوم الثلاثاء أقرب من أي وقت مضى من السيطرة على إدلب، آخر معقل للثوار.
وإمكانية انتصار الرئيس بشار الأسد لم يكن مشكوكا فيها، وجئنا نحن -ثلاثة من صحافيي "نيويورك تايمز"- إلى سوريا لنتفحص كيف يبدو انتصاره هذا.
وقمنا على مدى ثمانية أيام في حزيران/ يونيو بزيارة خمس قرى ومدن تحت سيطرة الحكومة، ووجدنا دمارا وكرما، وأناسا في حالة حزن، وآخرين يحاولون العيش، لقد توزعت المعاناة بشكل غير متساو، وأصابت بشكل كبير الفقراء والمناطق التي سيطر عليها الثوار، كما أن التعافي أيضا ليس موزعا بشكل متساو.
في دمشق، العاصمة، يعج سوق جديد، بني خلال الحرب بتكلفة 310 ملايين دولار، ليس بعيدا عن جبل كانت تستخدمه قوات الحكومة للقصف المدفعي ضد مناطق الثوار، بالمتسوقين.
وفي دوما القريبة، التي كانت تحت سيطرة الثوار معظم الوقت خلال الحرب، لا يزال وصول الماء إلى البيوت حلما أكثر منه واقعا، وفي معقل الحكومة القوي في اللاذقية تبكي النساء تحت صور أبنائهن الذين قتلوا، وبعد عامين من سيطرة الأسد على مدينة حلب شمال البلاد، بدأت المصانع والمتاجر بالعودة لمزاولة بعض النشاط، لكن الكهرباء لا تزال متقطعة.
وليس فقط البنية التحتية التي تحتاج لإعادة بناء، لكن ما رأينا في سوريا هو غياب الطبقة الوسطى، فمن كانوا ينتمون لتلك الطبقة إما هاجروا أو أنهم انزلقوا إلى حالة الفقر، وتقدر الأمم المتحدة بأن 8 من كل 10 أشخاص يعيشون في حالة الفقر، ويحصلون على أقل من 3.10 دولار في اليوم للشخص الواحد.
وحتى النازحين، فلم يعد منهم إلا القليل، فالشباب يضطرون إلى الخدمة في الجيش، والمعارضون ومن لهم علاقة بهم يختفون في سجون مظلمة، ولا يزال الناس يغادرون البلد، إلا أن أعدادهم أقل بكثير مما كان خلال الذروة.
ومع غياب أي مساعدات لإعادة البناء، يقوم السوريون الذين قابلناهم بفعل ما يستطيعونه لإصلاح بيوتهم، ويحاولون الحصول على قوت أطفالهم.
وفي ظل غياب الشباب تركت هذه المهمات للمسنين والأطفال، وكذلك النساء، وبينهن النساء من عائلات محافظة، اللواتي بدأن بالعمل لأول مرة.
وتقول أم عقيل، البالغة من العمر 40 عاما من شرق حلب: "لم أفكر أبدا أنني سأعمل، لكن ذلك أفضل من سؤال الناس"، وأضافت أن زوجها سجنته الحكومة ظلما، لكنها استطاعت البقاء، وأشارت إلى أنها تريد أن تعمل بناتها عندما يكملن دراستهن "لئلا يواجهن ما واجهته".
وفي كل مكان ذهبنا إليه كان مستحيلا أن ننسى الشخص الذي كان رئيسا لعملية الدمار، الذي سيكون رئيسا على ما يأتي لاحقا.
لافتات ضخمة تحمل صورة الأسد، وكتب عليها: "الأسد إلى الأبد" تجدها معلقة فوق الشوارع السورية، بالإضافة إلى أن صورته موجودة على أعلام في مداخل المدن التي قام الجيش بإعادة السيطرة عليها، وصوره وصور مؤيديه، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وزعيم حزب الله حسن نصر الله، على ولاعات السجائر، وعلى حاجز عسكري كان هناك ما لا يقل عن 13 صورة للأسد تنظر إلى اتجاهات مختلفة، مثل مجموعة من كاميرات المراقبة.
وكان وكلاؤه حاضرين دائما خلال رحلتنا، وكانت الحكومة السورية قد منعت الصحافيين الأجانب من الكتابة عما تعده خطيرا جدا، وحاولنا -أنا، المراسلة من بيروت ومترجم من لبنان والمصورة الأمريكية مريديث كوهوت- لما يقرب نصف عام للحصول على إذن لدخول تلك المناطق.
ولكن الحصول على تأشيرة لم يعن أبدا حرية التنقل، ففي كل مكان ذهبنا كان يصاحبنا مرافقون من الحكومة، وعدد من الجنود، وعناصر مخابرات مسلحة بزي مدني، وأحيانا كان أفراد المخابرات يقدمون أنفسهم على أنهم صحافيون، ويقفون معنا في كل حديث مع سوري تقريبا، وكان من الصعب لنا أن نتحدث مع الناس، ومن المرعب لهم الحديث معنا.
وفي أفضل الأحوال حصلنا على وجهة نظر ضيقة للموالين في سوريا: فلا أحد تحدثنا معه وجه اللوم لحكومة الأسد في النكبة التي دمرت سوريا، وكان الانهيار الاقتصادي بسبب العقوبات الأمريكية وليس نتيجة للحرب أو الفساد.
وحرص المرافقون على أن يظهروا لنا عودة الحياة إلى طبيعتها، وكان هذا سهلا في دمشق، التي تجنبت الدمار إلى حد كبير.
ولكن بعد دقيقتين في السيارة من دمشق إلى دوما بدأ المشهد خارج السيارة يتغير من مشهد مدينة حية إلى حقل من الأنقاض، امتد على مدى أميال، رماد الحرب: بنايات مدمرة، وبوابات تعج بالغبار، ومآذن تقف وسط الدمار مثل شموع ذاب نصفها على كعكة.
والدمار كان متشابها، ولم يترك الكثير قائما لدرجة تجعل من السهل نسيان أن هذه المساحات لم تكن دائما أنقاضا، وأن بيوتا كانت تقف مكان هذه الأنقاض.
وفي دوما، هناك زبائن في السوق يبحثون عن الفواكه وأدوات البيت الرخيصة، لكن بعد عام من اجتياح الحكومة لمعقل الثوار هذا بعد حصار جعل الناس يأكلون الأعشاب بقي معظم المدينة غير ملائم للسكن.
ويمكن للشخص أن يلاحظ أين بدأ الناس يعودون إلى خيام بين الأنقاض، وفي إحدى البنايات شبه المدمرة، حيث تستطيع رؤية الثريات المغطاة بالغبار من خلال الثغرات في الجدران، التي تشهد على وجود طبقة وسطى سابقا، أخذنا طفل كان يلعب في الخارج عبر درج إلى جديه علي حمود تهمي وزوجته أم فارس، لقد عاد الجدان إلى شقتهما في شهر أيار/ مايو، حيث وجدا أنها سرقت وحرقت، والشيء الوحيد الذي تبقى من أثاثهما هو بساط أزرق أخذته أم فارس عندما ذهبا للاختباء في تسوية تحت الأرض في بناية في الجانب الآخر من المدينة في الأيام الأولى من الحرب، وخلال سنوات الحرب السبع عاشا تحت الأرض، وكانت تمر عليهما أيام دون طعام أو ماء، ورفضت فرش البساط في انتظار عودتهما إلى بيتهما ثانية.
ومع عودتهما كان قد مات عشرون من أفراد عائلتهما، وأصبح الجدان مسؤولين عن رعاية أحد عشر حفيدا يتميا في بناية شبه مهجورة.
وبالنسبة للقلة من الأصدقاء والجيران الذين بقوا، تقول أم فارس: "نتجنب رؤية بعضنا.. لأن لدينا القصص الحزينة ذاتها".
حفيدها خالد البالغ من العمر 9 سنوات جلس يمسح عينيه الدامعتين، ويغطي وجهه بوسادة، وقالت أم فارس إن حفيدها لم يكن يبكي لفقدان والده، لكنه يعمل مع حداد ليحصل على أجر يساوي ثمن شطيرة في اليوم، وبأن الشرار والكيماويات المستخدمة في معمل الحداد تتسبب بتهيج في عينيه، ولم يكن بالإمكان شراء العلاج له، لكن دون العمل لا يمكن شراء الطعام.
وقام الجد ثم عاد بصحن زجاجي صغير فيه معمول، وكان السوريون الذين نقابلهم يقدمون لنا شيئا، بغض النظر عن قلة ما يملكون، وقال لنا الجد وهو يودعنا إن هذه هي أفضل منطقة في دوما كلها.
وتضاعف عدد المرافقين الحكوميين عندما ذهبنا إلى محافظة اللاذقية، والأكثرية فيها من الطائفة العلوية التي ينتمي لها الأسد، وهي الطائفة المسيطرة في الجيش والأمن.
في قرية بيت ياشوت الجبلية تعلق صور الشباب الذين ماتوا وهم يقاتلون إلى جانب الأسد على أعمدة الهاتف، ورافقنا جنرال عسكري ومسؤول في القرية ومسؤولون عن شؤون المحاربين السابقين، حيث تنقلوا بنا من بيت إلى آخر.
وسألت ياسين حسنة، والد أحد الجنود المقتولين، حول تضحيته، وإن كان الأمر يستحق، فقال: "أي شيء لأجل سوريا"، ونظر الى الجنرال الذي هز رأسا موافقا، وأضاف الأب: "آمل أن نستشهد جميعا لأجل البلد".
وقالت الأم زكية أحمد حسن، التي عرضت لي المقعد البلاستيكي الذي تستخدمه للجلوس بجانب قبر ابنها، وتشرب القهوة، وتغني له: "شرف لنا أن نضحي به.. لقد كان يدافع عن البلد".
ويظن الكثير من غير العلويين أن العلويين كوفئوا على ولائهم، لكن هذه العائلات بالكاد تستطيع العيش، وتحدثوا عن عدم تمكنهم من شراء الحليب للرضع، والأسعار الباهظة للبطاطا والزيت والسكر، وقالوا إنهم توقفوا عن شراء اللحوم.
وأشارت زكية حسن إلى الخضار التي تزرعها بالقرب من قبر ابنها، وقالت: "حتى لو فرضت أمريكا العقوبات علينا نستطيع العيش على الخبز والخيار".
وأكد المحافظ ابراهيم خضر السالم بأن الحكومة تخصص الموارد لعائلات المحاربين السابقين، ومن المفترض أن يحصلوا على أولوية في الوظائف الحكومية، بالإضافة إلى منافع أخرى، مثل إعفاء سياراتهم من الضرائب ورسوم الجامعات.
وقال السالم إن "الرئيس بنفسه جعل أولوية لهذه القضية.. وفي كل يوم تقوم الحكومة بمتابعة شؤون عائلات الشهداء وتتفقدهم".
وقامت ثلاث كاميرات حكومية بتصوير مقابلتنا مع المحافظ حتى انتهى من كل ما أراد أن يقوله.
وفي طريقنا نحو الشمال إلى حلب رأينا سيارات محروقة ومنقلبة على الطريق، ولا يزال الدخان يتصاعد من حقول الحبوب التي حرقت، ولا أحد يعلم من الذي يقف خلف تلك الحرائق، لكن من الواضح أنها ستزيد من جوع السوريين.
قبل الحرب كانت حلب هي أكبر المنافسين لدمشق، بحسب ما قالته مرافقتنا رنا، وسكانها لا ينامون، أو هكذا كان حالهم قبل حصار الحكومة الذي دمر سوقا من القرن الرابع عشر، وأطفأ الأنوار في معظم المدينة.
وبعد عامين ونصف مما سماه كل من قابلناهم تحرير شرق حلب الذي كان يسيطر عليه الثوار، لا تزال الكهرباء تأتي من مولدات خاصة بشكل رئيسي، ودون تمويل حكومي، فإن إعادة البناء تعتمد على الإمكانيات المالية الشخصية، وهناك من لا يستطيع شراء الأبواب والشبابيك، ويعيش الناس دون كهرباء إلا القليل منهم، ويجلسون خارج بيوتهم حتى وقت النوم.
ولم يعد للعمل سوى المستشفيات الخاصة، وربما ذلك لأن الحكومة كانت قد قصفت المستشفيات العامة بشكل متكرر، وهي لا تزال مهدمة.
وفي النهار تكتظ المنطقة ببائعي البطيخ وبالسيارات، وقالت لنا امرأة قابلناها في صالون حلاقة، إن هذه هي المرة الأولى التي تقص فيها شعرها في صالون منذ بداية الحرب، بالإضافة إلى أن المدارس فتحت أبوابها.
وتقرأ على لافتة كبيرة: "عاد الأمن إلى سوريا"، لكن الأمن لم يعد إلى أم أحمد البالغة من العمر 28 عاما، التي كانت تجلس أمام بيتها مع أختها مساء، وتحيط بها بنايات محطمة، اختفى زوج كل منهما، حيث اعتقلا لدى دخول القوات الحكومية إلى شرق حلب عام 2015.
وهنا قامت مرافقتنا رنا، التي لم تذكر اسمها كاملا، وقالت لأم أحمد إن الأمر أكثر تعقيدا، وإنه يجب ألا تقول مثل هذه الأشياء للصحافيين، فقالت أم أحمد: "هل علينا أن نكذب؟ هذا ما حصل"، وهنا قامت رنا بأخذها إلى المطبخ وارتفع صوتهما، لكنها عادت صامتة.
وبعدها اشتكيت إلى وزير الإعلام لكثرة المرافقين، فقال لي عليك أن تفهمي أننا لسنا أمريكيين، ونقوم بالأمور بشكل مختلف هنا، والكل هنا يفترض أنكم جواسيس.
وعندما حان الوقت للمغادرة رافقتنا المخابرات العسكرية حتى الحدود اللبنانية، وكان علينا التوقف أربع مرات في الطريق بسبب تعطل السيارة.
فكيف يبدو الانتصار؟ مقتل نصف مليون على الأقل، وحرمان حوالي 11 مليونا من بيوتهم، وأنقاض في المدن، وجيران أشباح، أسواق للبعض وخيار مزروع في البيت للبعض الآخر.
لقراءة النص الأصلي اضغط (هنا)