تمرُ البشرية بين الحين والآخر بلحظاتٍ كارثية؛ تذهب بها إلى أعتاب الحرب لتخوضها أو تتراجع عنها لأجل..
حروب أتت على الأخضر واليابس وقتل فيها آلاف البشر؛ سببها المباشر في الأغلب يأتي تافها لا يكافئ نتائجها وخسائرها البشرية والمادية الباهظة.
أشهر الأمثلة في ذلك حرب داحس والغبراء التي وقعت أيام الجاهلية، والتي استمرت لما يقارب الأربعين عاما بين قبيلتي بني عبس وبني ذبيان، وكان سببها سباق بين فرسين لسَيِدَي القبيلتين؛ فازت أحداهما على الأخرى بسبب حيلة وشرك وضعه رجل من ذبيان للفرس "داحس"، ليحرمها من فوز محقق، فقامت حرب استمرت لأربعين عاما؛ قُتل فيها من قتل. ولا تقل عن ذلك غرابة حرب البسوس التي استمرت هي الأخرى أربعين سنة بسبب مقتل ناقة!!
وحديثا كانت واقعة قيام الداي حسين بضرب قنصل فرنسا على وجهه بمروحة يده؛ سببا في حصار فرنسا للجزائر ثلاث سنوات ثم احتلالها لمدة 132 سنة.
هكذا سجّل التاريخ أسبابا غريبة لاندلاع الحرب وتحولاتها التاريخية، لكن بقليل من الجهد في تحليل الحادثة وتاريخها ودراسة العلاقات المتشابكة التي أدت إليها، تجد نفسك أمام أسباب أكبر وخلفيات أعمق أدت للحرب، وليس هذا السبب المباشر الضعيف الذي استند له أحد الأطراف، عندها تدرك أن الحرب قامت نتيجة حفاظ أحد الأطراف على نسق ممتد من تراكم حالة العداء أو تراكم الاحتياج؛ الذي يعزز فرص الحرب وينتظر سببا مناسبا يكون بمثابة عود الكبريت الذي يصادف وسطا مشتعلا بالأساس.
الثورة كما الحرب عملية تراكم وأرضية قابلة للاشتعال دوما، فكلما قمت بتجربة أحد أعواد الثقاب كلما كانت هناك فرصة لإشعال نار، وكلما مرت الثورة بموقف اشتعال ولو بسيط؛ كلما كانت هناك فرصة لقيامها ونجاحها. فالغُنم بالغُرم والأمور بأسبابها.
والثورة كالنار؛ تحتاج لمحاولات متتالية، وعود الكبريت مجرد سبب يشتعل في محيط. قد يصادف محيطا خاملا لا يشتعل، وقد يصادف محيطا على أهبة الانفجار فينفجر!
وكثيرا ما صادفت ثورتنا لحظات انفجار مرت دون حيازة أحدهم عودا من أعواد الكبريت!!
وكم من مرة تلقي أعواد الكبريت في وسط خامل، فتحترق وحدها دون أثر يذكر.
الثورة
المصرية التي قامت في يناير كانت نتاج تراكم كبير امتد لعقود من الحكم العسكري، إلا أنه صادف الاشتعال بمقتل خالد سعيد وسيد بلال رحمهما الله. واستمرت جذوة الثورة مشتعلة حتى هدأت بفعل الانقلاب عليها، لكنها في الوقت ذاته ما زالت تتفاعل تحت الرماد، وما زالت نفوس من شاركوا فيها ثائرة تنتج فعلا ثوريا ولو بضعف، لكنها بأي حال لم تنتقل إلى مربع المعارضة المستأنسة التي يسعى الانقلاب لتشكيلها على مقاسه.
حالة الرواج التي صادفتها فيديوهات المقاول المصري محمد علي تدل على ذلك، فما زال الفعل الثوري في تراكم ويتمتع بأرضية تشتعل مع أقل محاولة يقوم بها أحدهم.
القاعدة إذا هي الحفاظ علي تلك الحالة، فقد تصادفنا ثورة لسبب ما.. يوفقنا الله لها مكافأة على وجودنا في مواطنها.
وفق هذه الأرضية يجب التعامل مع حالة محمد علي التي يفضح فيها العسكر بإدراك حزمة من المفاهيم في النقاط التالية:
- المعركة مع الانقلاب ممتدة ومستمرة إلى أن تُحسم.
- المعركة ليست حصرية بين الانقلاب والإخوان، كما يحرص أن يرسمها العسكر، بل هي معركة بين العسكر ومنظومة مصالحهم وداعميهم من جهة؛ والثورة والشعب والوطن من جهة أخرى.
- بعد الانقلاب ولفترة قريبة، كانت المساحة البينية بين معسكر الثورة والانقلاب في حالة سيولة؛ ينحاز فيها كثير من المصريين لرواية العسكر عن تهديد الدولة المصرية وروايات الإرهاب واستهداف مصر. وتغير هذا الحال مؤخرا بشكل ملحوظ.
- انتقل الانقلاب من مساحة استهداف خصومه السياسيين إلى استهداف المصريين عموما؛ في قوت أولادهم وصحتهم ومصالحهم ومستقبلهم بشكل مباشر لا لبس فيه، وبشكل أضاف مساحة جديدة لخريطة الثورة.
- مع الوقت ينتقل كثير من المصريين من مساحة تأييد الانقلاب أو مساحة السكوت عنه والرضى السلبي بما يفعل؛ لمساحة الرفض الضمني أو المعلن.
- من العقل الاستفادة بكل حالة رفض لهذا الهم الجاثم على صدور الجميع وعدم الوقوف عند الموقف السابق لصاحبها، فلا نفلت أي فرصة تساهم في زيادة التراكم الثوري.
- ما قدمه الثوار، ومنهم الإخوان، من تضحيات بالروح والمال والعمر مقدر، لكن لا ينبغي وضع الجميع في معادلة شرطية، فالجميع مضرور وحقنا لن يضيع طالما وراءه مطالب.
- مؤيدو الأمس الذين أصبحوا معارضين اليوم لم يطلب منهم أحد أن يتقدموا الصفوف أو أن يصيروا أبطالا وزعماء ثورة (فقط)، كل ما علينا فعله هو إفساح الطريق لهم ليشاركوا في تصحيح أوضاع شاركوا في تعقيدها.
هذه المفاهيم التي أدركها الانقلاب منذ اللحظة الأولى.. هل ندركها نحن أيضا؟