منذ انطلاق صوت محمد علي، ومصر تعيش على وقع المفاجأة وسط سحابة ضبابية لا تدري عن أي شيء تنقشع؛ عن نظام جديد يضع "جنرالا" مكان "جنرال"؟ أم نظام علماني يظهر بوجهه الناعم منقذا لمصر من جبروت ذلك الانقلاب ويشق الطريق لتيار علماني جديد؟ أم منظومة حكم متكاملة المعالم تكون ملكا للشعب
المصري كله دون تمييز؛ ترفع عن كاهل مصر عناء السنين وتعيد العجلة المختطفة لحياة الحرية، ويكون ميزان العدل الديمقراطي هو الحكم بينها؟
من تصاريف القدر أن تشهد مدينة اسطنبول مؤخرا واحدا من أهم مؤتمرات
الإخوان المسلمين: "الإخوان المسلمون.. أصالة الفكرة واستمرارية المشروع"، بينما كانت القاهرة والمنطقة كلها تشهد ضجيجا يحدث ويتزايد صداه على امتداد الأيام ضد السيسي وجنرالاته الفسدة في الجيش.
وبينما كان الإخوان يسجلون نقطة من نقاط قوتهم؛ تثبت وجودهم وتعافيهم ومضيهم على طريق رسالتهم، غير عابئين بتلك الحملة السوداء التي توجه سهامها إليهم من كل حدب وصوت، عاش النظام الانقلابي واحدة من أتعس لحظاته عندما انطلق واحد عاش في أحشائه خمس عشرة سنة؛ يفضح أسرار فساده وجبروته بطريقة مزلزلة.
هنا الإخوان ينهضون وينطلقون إلى قرن جديد من عمر دعوتهم رغم محنة قاسية يعيشونها؛ تكالب عليهم فيها كل ملل الباطل والعداء للإنسانية. وهناك نظام يهتز بقوة زلزال شديد، أحدثه فرد واحد ظهر فجأة فخلط كل الأوراق، واهتز النظام الفاشي الذي بدا للعالم منذ أول يوم من انقلابه قويا متجبرا، ومتترسا بكل أنواع القوة ومحاطا بكل الرعاية الإقليمية والدولية.
رغم كل الملاحظات التي قيلت عن المؤتمر، إلا أنه يقول لكل من كان يبشر بأن الجماعة تلاشت أو في طريقها للزوال، أنها ما زالت موجودة وتتعافى، تفكر وتجمع أكثر من 500 عالم وباحث وداعية إضافة للضيوف من أنحاء العالم، وتقدم على مائدة المؤتمر تسعة من الأبحاث والدراسات من الوزن الثقيل؛ ترسم في مجملها رؤية الجماعة ومواقفها وآلياتها في الدعوة إلى الله، وبناء أفرادها وإصلاح المجتمعات، وبرامجها في العمل داخل المجتمع وعلى الصعيد الدولي، ووعيها بواقعها على مختلف القضايا التي يموج بها العالم. نعم هي البرامج نفسها التي عملت بها خلال المئوية الأولى، وكانت تمثل مجتمعة معالم الجماعة التي عرفها العالم "وسطية معتدلة"، وفي ظل المحاولات المستميتة لدمغ الجماعة بالعنف والإرهاب وتحميلها زورا وظلما (بصورة مكثفة) وزر كل الأحداث الإرهابية التي وقعت في مصر. وجرت مساع متواصلة إقليميا ودوليا لتصنيفها كجماعة إرهابية عالميا، كان من أبرز صورها فتح بريطانيا تحقيقا في هذا الموضوع لمدة عام، وكان نتيجته براءة الجماعة من تلك المزاعم التي يتم ترديدها
كل ذلك وغيره كان أدعى للجماعة لكي تؤكد ثوابت فكرها ومنهجها، وتؤكد في الوقت نفسه قوة وجودها واستمرار مسيرتها، وأنها أفضل مما خططوا له. وبناء عليه، فلو حدث أي تطور للأحداث في مصر ستكون جماعة الإخوان حاضرة في الساحة، وهي لم تغب عنها؛ جاهزة بقادتها وكوادرها الذين يدفعون ضريبة حرية مصر وتحريرها خلف القضبان، وقادتها وكوادرها في كل الميادين والساحات؛ بين الشعب لا يتقدمون عليه ولا يتخلفون عنه.
في خلفية هذا المشهد، يجدر بنا أن نتذكر أنه منذ الانقلاب العسكري على الرئيس الشهيد المنتخب محمد مرسي وهناك توجه يزداد قوة، تدعمه قوى إقليمية برعاية دولية تسعى لتأسيس حكم ينحّي العسكر ويقوم بعزل الإخوان سياسيا، ويمنعهم من الوجود الفاعل على الساحة، لمصلحة تيار يتم تشكيله منذ الانقلاب؛ يكون الضامن لمصلحة الأمريكان والغرب والصهاينة في مصر، ويحقق في الوقت نفسه قدرا من الحرية، ويحد من الفساد ويرفع الضغط الاقتصادي عن الأنفاس حتى يكون هناك مبرر لقبوله.
هذا التوجه ظل يستعد لليوم المحتوم بأذرعه السياسية والإعلامية، ولعل الشعار الذي يردده البعض علي الإعلام "لا عسكر.. ولا إخوان" ينطلق من هذا التيار، ولا أدري: علي أي منطق يستند هذا الشعار. الإخوان مارسوا ممارسة حضارية ووصلوا لحكم مصر عبر انتخابات ديمقراطية شفافة شهد العالم كله بنزاهتها، أما العسكر فقد انقلبوا على الحكم المنتخب وعلى التجربة الديمقراطية برمتها.
شتان بين موقف العسكر والإخوان، فكيف يتم الجمع بينهما بهذا الشكل؟! بيت القصيد هنا أن الولايات المتحدة تريد نظام حكم علماني مدني يحرس مصالحها، ويقضي على المشروع الإسلامي بطريقة ناعمة؛ لأن الانقلاب بقوته الغاشمة لا يمكن أن يحقق هذا المطلب، بل يقوي المشروع الإسلامي؛فحملاته العسكرية والأمنية تزيد من تعاطف الشعب والتفافه حول الإسلام وأصحاب المشروع الإسلامي، وحتى وقت قريب لم يتم التوصل لتيار علماني ولا لشخصية علمانية تقنع الشعب المصري بالالتفاف حولها لتحقيق ذلك.
أيا كان الأمر، فإن ثنائية "العسكر والإخوان" ثنائية فاشلة ولم تجد قناعة لدى الشارع المصري، فجمع النقيضين في بوتقة واحدة غير مقبول لا عقلا ولا منطقا. ثم إن عزل الإخوان من الساحة والحجر السياسي عليهم، وهم ما زالوا بهذه الحيوية والوجود القوي حتى وهم داخل السجون لن يحقق نجاحا، وإنما الطريق الأسلم هو التفاهم والحوار بين كل قوى المجتمع المصري بلا استثناء، للوصول إلى منظومة حكم تعيد الجيش لمهامه الأساسية في حماية حدود الوطن، وترد الشرطة لتأمين الشعب والبلاد داخليا لا لقمعها وسجنها.
منظومة تنسف "سيستم" الحكم البائد، وتستبدله بنظام ديمقراطي شفاف يعيد الحقوق إلى أصحابها، وينهي عصر المعتقلات والاختفاء القسري والتصفية الجسدية. ينهي ذلك العصر الأسود الذي أشاع الخراب والخوف والتفريط في حقوق الوطن. منظومة تنطلق بمصر كلها إلى القرن الحادي والعشرين، بعد أن توقف بها الحكم العسكري عند القرون الوسطى بوحشيتها وتخلفها.
مع كل دعوات محمد علي ومن وراءه ومن معه لإزاحة هذا الحكم الفاجر والدخول بمصر إلى حكم العدل والحرية والعدالة؛ لن يجد أي عاقل نفسه إلا في صفه ومناصرته. ونتمنى ألا يتم استبدال السيسي بسيسي جديد، كما حدث في تركيا من قبل عندما تم استبدال الجنرال جمال جورسيل الذي قاد الانقلاب على الرئيس المنتخب عدنان مندريس وأعدمه؛ بكنعان إيفرين الذي فاقت دكتاتوريته وفساده عصر جمال جورسيل عشرات المرات.