لم يكن الكثيرون (وأنا منهم) يتوقعون
نزول المصريين إلى الشوارع بتلك الأعداد التي شاهدناهم بها مساء الجمعة الماضية (20 أيلول/ سبتمبر)، إذ أن عمليات القمع البشعة التي مارسها نظام
السيسي على مدار السنوات الست الماضية، تطبيقا لنظرية الصدمة والرعب، تركت مفعولها في النفوس، وزرعت فيها عقدة خوف تشبه عقدة الجزائريين من العشرية السوداء في التسعينيات، ونتيجة هذه العقدة فلم يكن متوقعا أن يخرج
المصريون إلى الشوارع، أيا كان صاحب الدعوة لنزولهم، خوفا من تعرضهم للقتل في الشوارع، كما حدث لمصريين آخرين وقفوا ضد الانقلاب واعتصموا بشكل سلمي حضاري؛ فتم فض اعتصامهم وقتل الالاف منهم ليكونوا عبرة ومثلا لغيرهم.
وكما في الحالة الجزائرية، حيث تجاوز الجزائريون عقدة العشرية السوداء، فقد تجاوز المصريون عقدة رابعة والنهضة ورمسيس وغيرها من المذابح، وتمكنوا من كسر حاجز الخوف في نفوسهم، وكان هذا هو الانتصار المهم، أو لنقل
الثورة الأهم وهي الثورة على الإحباط، والتي تليها الثورة على الحكم العسكري، واستعادة المسار الديمقراطي في البلاد وتطبيق مبادئ ثورة 25 يناير، من عيش وحرية وعدالة اجتماعية وكرامة إنسانية؟ نعم كان الإنجاز الأكبر هو هزيمة الاحباط وعقدة الخوف، وهو ما سهل بعد ذلك الوصول إلى مياديين الثورة الرئيسية في القاهرة والمحافظات، وفي مقدمتها ميدان التحرير.
لم تكن الدعوة التي
وجهها المقاول والفنان محمد علي، سواء بالأصالة عن نفسه أو بالنيابة عن آخرين يقفون خلفه تطالب الناس بالتحرك إلى ميدان التحرير أو غيره من الميادين، ولكنها اقتصرت على نزول فولكلوري أمام المنازل عقب انتهاء مباراة كرة القدم بين فريقي النادي الأهلي والزمالك، وكان محمد علي يعتبر أن ذلك بمثابة خطوة أولية معقولة في إطار تصعيد متدرج ينتهي بالنزول إلى الميادين، وإذ بالآلاف يحرقون المراحل فينزلون مباشرة إلى ميادين الثورة ويرددون هتافاتها التي غابت عن شوارع مصر لعدة سنوات، وإذ بهم ينزلون قبل الموعد الذي حدده صاحب الدعوة عقب المبارة، ولا يقتصر نزولهم على القاهرة بل شمل العديد من المحافظات.
لم يتوقف الحديث عن الجهة التي تستتر خلف محمد علي، والتي قدمت التيسيرات للتظاهر بدون وقوع دماء، لكن الأهم هو حديث الكثيرين عن أن هدف تلك الجهة هو تنفيذ انقلاب ناعم، مع توفير غطاء شعبي له في شكل تظاهرات تحت السيطرة، ليتم عقبها الإعلان عن الاستجابة لمطالب الشعب تطبيقا للنص الدستوري (المادة 200) التي تمنح القوات المسلحة الحق في التدخل السياسي للحفاظ على مكاسب الشعب!! وهذا التعديل أدخله السيسي ضمن حزمة التعديلات التي جرت مؤخرا للدستور المصري، وعلى الأرجح سيكون هو شخصيا أول وآخر ضحايا هذا النص.
ما يدعم القول بأن المستهدف هو مجرد انقلاب يطيح فقط برأس النظام، ويحافظ على بقية جسده؛ هو تلك النداءات المتكررة من صاحب دعوة النزول المقاول محمد علي لوزير الدفاع للقبض على السيسي، مع تأكيده أنه لن يحاسَب أحد غيره، وهي فكرة، رغم أنها تصطدم بموقف الكثير من القوى السياسية القديمة والحديثة، لاقت هوى عند الكثيرين بحسبانها خطوة على طريق طويل، وأن هذا المطلب البسيط هو الذي يوحد الجميع الآن على خلاف المطالب الكبرى التي يختلف المصريون عليها، وربما أسهم هذا التصور البسيط في نزول الكثيرين في ظل رسائل طمأنة مجهولة المصدر؛ وصلتهم بأنهم سيكونون في أمان، وقد تحقق هذا الأمان بالفعل في اليوم الأول إلى حد كبير (باستثناء اعتقال حوالي 200 متظاهر) لكنه تغير في اليوم الثاني، وكان أبرز مشاهد التغير هو القمع الأمني
ومعارك الكر والفر بين المتظاهرين والأمن في مدينة السويس.
ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، وليس كل ما يخطط له البعض يصبح أمرا حتميا، فالشعب هو صاحب الكلمة الأخيرة، وقد كسر حاجز الخوف، وأصبح قادرا على تحويل الانقلاب إلى ثورة، يستعيد بها كل حقوقه المنهوبة، ومطالبه المشروعة في العيش والحرية والكرامة الإنسانية، وطالما أن الشعب نجح في الثورة على حالة الإحباط والخوف، فإنه سيستطيع الانتصار على عصابة السيسي الحاكمة. ونتذكر هنا أن ثورة 25 يناير بدأت بمطلب بسيط وهو إقالة وزير الداخلية حبيب العادلي، عقابا له على ما ارتكبته وزارته من جرائم؛ كان أبرزها قتل الشابين خالد سعيد وسيد بلال، لكن المطالب تصاعدت مع الوقت وصولا إلى المطالبة بإسقاط النظام. وقد نجحت بالفعل في الإطاحة برأس النظام وحاشيته المقربة، وإن لم تستطع تحقيق كل أهدافها حتى الآن، والأمر قابل للتكرار في الموجة الحالية التي رفعت شعارات يناير ذاتها، وفي القلب منها المطالبة بإسقاط النظام وليس مجرد شخص السيسي.
من الواضح أن فكرة إسقاط السيسي كهدف مرحلي بدت براقة للكثيرين استنادا إلى خلل موزاين القوى الحالي، ورغبة في
تحقيق مكسب جزئي تتبعه مكاسب أخرى عاجلة؛ على رأسها إطلاق سراح السجناء السياسيين ووقف التدهور الاقتصادي والأمني والاجتماعي في البلاد، ولكن سيظل الهدف الأكبر هو إقامة دولة مدنية ديمقراطية حديثة؛ يكون الحكم فيها للمدنيين بينما يكون واجب للجيش هو حماية الحدود والثغور والأمن القومي للبلاد، وليس التدخل في الاقتصاد أو السياسة.