يعكس الاتفاق الأمريكي التركي الغامض حول "
المنطقة الآمنة" شمال وشرق سوريا؛ حالة من التخبط الاستراتيجي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط عموما وفي سوريا خصوصا، لكنه يعبر في نفس الوقت عن الاستراتيجية الأمريكية البراغماتية الخالصة في زمن ترامب، والتي تقوم على محاولة تقليل الخسائر الأمريكية والعمل على خلق متاعب مكلفة لحلفائها وخصومها، في إطار سياسة داروينية فجة.
فالاتفاق الذي جرى في أنقرة بين نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس والرئيس التركي رجب طيب أردوغان،
لوقف إطلاق النار لمدة خمسة أيام شمال سوريا في 17 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، جاء بعد أوامر ترامب بسحب الوحدات الأمريكية من شمال سوريا، والذي مهد الطريق للجيش التركي لشن هجوم عسكري واسع في التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري. ومع انتهاء الفترة المحددة لوقف إطلاق النار سوف تتكشف سريعا هشاشة الاتفاق وغموضه وطبيعة أهدافه، والتي ستؤسس لمزيد من النزاعات.
لا جدال أن الاتفاق الهش أنجز على عجل، بعد أن أطلقت
تركيا منفردة عملية "نبع السلام" في منطقة شرقي نهر الفرات شمال سوريا، بمشاركة الجيش الوطني السوري، وذلك بهدف ملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني، ووحدات حماية الشعب الكردية، وإنشاء منطقة آمنة لعودة اللاجئين السوريين إلى بلدهم، وذلك بعد مماطلة أمريكية في إنشاء منطقة آمنة يشارك بتأسيسها البلدان، فقد أعلن وزير الدفاع الأمريكي، مارك إسبر، أنّ سحب القوات الأمريكية جاء على خلفية رفض واشنطن "الانخراط في قتال مع تركيا، الحليف القديم لحلف شمال الأطلسي (ناتو)، نيابة عن قوات سوريا الديمقراطية". وانتقد زعماء الديمقراطيين في مجلس النواب الأمريكي بحدة قرار ترامب إسقاط العقوبات المفروضة على تركيا. وفي بيان مشترك، وصفت نانسي بيلوسي، رئيسة المجلس، وتشاك شومر، زعيم الأغلبية الديمقراطية فيه، تعليق العملية العسكرية التركية في سوريا بأنه "وقف إطلاق نار زائف".
يبدو أن وقف إطلاق النار لا يعدو عن كونه زيفا بالفعل، فالاتفاقية الأمريكية التركية تنطوي على هشاشة بالغة وغموض واضح. فالمصطلحات المستخدمة في هذه الاتفاقية المكونة من 13 بنداً تكشف عن هشاشة وغموض في كافة بنودها، فلا توجد إشارة لوقف حقيقي لإطلاق النار، بل تتحدث عن"وقف مؤقت". ومصطلح "المنطقة الآمنة" التي يتعين على المقاتلين الأكراد من وحدات حماية الشعب الانسحاب منها، يشير إلى اختلاف كبير في تعريفه وحدوده، فالرئيس التركي رجب طيب أردوغان يتحدث عن منطقة سيجري إنشاؤها على طول الحدود السورية التركية تمتد بعمق 32 كيلومتراً على طول الحدود البالغ طولها 444 كم.
بينما يتحدث المبعوث الأمريكي إلى سوريا جيمس جيفري عن حدود مختلفة لهذه المنطقة، فبحسب جيفري فإن "الولايات المتحدة وتركيا حددتا المنطقة الآمنة بأنها المنطقة التي تعمل فيها تركيا حالياً بعمق 30 كيلومتراً، في جزء رئيسي من شمال شرقي سوريا". ويقصد جيفري بذلك المنطقة الممتدة من مدينة رأس العين حتى تل أبيض، ويبلغ طول هذه المساحة تقريباً 120 كيلومتراً، وفقاً لوكالة الأنباء الفرنسية. وقد أوضح جيفري في حديثه عن المنطقة الآمنة قائلاً: "إنَّنا هنا نتحدث عن المنطقة الآمنة، ويتحدث الأتراك عن منطقة آمنة يطمحون إليها، تستند إلى ما قمنا به معهم في آب/ أغسطس الماضي، حيث كانت المنطقة الآمنة تمتد من نهر الفرات حتى الحدود العراقية، وكانت لدينا مستويات مختلفة من الرصد التركي أو التحرك، أو أيَّا كان، بمسافة 30 كيلومتراً جنوباً، مع انسحاب وحدات حماية الشعب الكردية من بعض تلك المناطق".
أما في بند السلاح فيدعو الاتفاق إلى تسليم التنظيمات الكردية أسلحتها وجمعها، ويدعو أيضاً إلى هدم المواقع والتحصينات الخاصة بهم، لكن دون توضيح من سيقوم بهذه المهمة، حيث تقول السلطات التركية إن الولايات المتحدة هي المسؤولة. وحسب موقع دويتش فيلة الألماني، فإن الخبراء يشيرون إلى حقيقة أن الولايات المتحدة مشغولة حالياً بالمسائل اللوجستية المرتبطة بسحب جنودها من المنطقة. ويقول الخبير الأمني متين غوركان: "لقد انسحب الجنود الأمريكيون بالفعل من المنطقة الواقعة شرق الفرات. لذلك، الاعتقاد بأنهم سيتولون أمر نزع أسلحة مليشيات وحدات حماية الشعب في شمال سوريا غير واقعي".
تدرك الأطراف الفاعلة في سوريا الطبيعة المتقلبة لمزاج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يقول الشيء ونقيضه في نفس الوقت، بحيث ينعت حليفا له صباحا بـ"الأحمق"، ويصفه مساء بـ"الحكيم"، كما تدرك هذه الأطراف الاستراتيجية الأمريكية البراغماتية الفجة، ولذلك فإن اليوم الموافق لانتهاء سريان وقف إطلاق النار المفترض في 22 تشرين الأول/ أكتوبر، سوف يشهد لقاء الرئيس رجب طيب أردوغان بنظيره الروسي فلاديمير بوتين، في مدينة سوتشي. فأحد أهداف الاستراتيجية الأمريكية خلق مزيد من التناقضات بين تركيا وروسيا، ولذلك ستسعى أنقرة للتوصل إلى اتفاق مع موسكو بشأن شمال سوريا، فقد رفض بوتين الموافقة على دعم منطقة أنقرة الآمنة، وأولوية روسيا التي تحمي نظام الأسد تستند إلى اتفاقية "أضنة"، والتي عُقدت بين أنقرة ودمشق عام 1998 وتنص على حظر حزب العمال الكردستاني في سوريا، وهي الاتفاقية التي استخدمتها أنقرة لتبرير عملية "نبع السلام".
يضفي الاتفاق الأمريكي التركي المزيد من التعقيد في فهم الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط والتنبؤ بمساراتها، لكن المؤكد أن الولايات المتحدة تسعى لزيادة نفوذها وإضعاف خصومها ومنافسيها، ومعاقبة حلفائها الأوروبيون على مواقفهم، إذ لم تكن إعلانات ترامب بالانسحاب من سوريا سوى أحد مكونات هذه الاسترتيحية. فقد خلق إعلان ترامب الانسحاب من سوريا في كانون الأول/ ديسمبر 2018، تنافسا بين الأطراف الفاعلة، لكن الانسحاب لم يحصل، وهذه المرة لا وجود لانسحاب فعلي، وإنما إعادة تموضع وانتشار. فلا تزال الأهداف الأمريكية لم تتحقق، فأولويات واشنطن في الشرق الأوسط تقوم على حرب تنظيم "الدولة الإسلامية" بالتحالف مع المنظمات "الكردية" واعتبارها شريكا موثوقا في الحرب على الإرهاب، والتصدي للمشروع الإيراني بإنشاء خط اتصال بري يمر من العراق إلى سوريا وصولاً لجنوب لبنان لدعم حزب الله.
في هذا السياق، كشف تقرير سابق لمجلة "فورن بولسي" عن نية الإدارة الأمريكية إبقاء بعض القوات العسكرية في "قاعدة التنف" جنوب شرق سوريا لمواجهة النشاط الإيراني. وقد قال ضباط أمريكيون إن قرار انسحاب القوات الأمريكية من مواقعها في سوريا على خلفية العملية العسكرية التركية، لن يشمل محافظة دير الزور (شرق سوريا)، حيث تتمركز القوات الأمريكية في مناطق سيطرة المنظمات الكردية المسلحة في دير الزور، المحافظة الأغنى بحقول النفط والغاز في سوريا.
وحسب الخبير والباحث بالشؤون السياسية والمختص بالملف الأمريكي، جوزيف برامل، فإن دوافع جيوسياسية تكمن وراء خطوة الرئيس ترامب سحب قواته من شمال سوريا وتمهيد الطريق للهجوم التركي. فالأنظار تتجه صوب إيران، إذ يعتقد أن وراء انسحاب الوحدات الأمريكية قد تكون مصالح جيواستراتيجية. وحسب رأيه، لا يرتبط الأمر بانسحاب الولايات المتحدة من منطقة الشرق الأوسط أكثر ما أن الولايات المتحدة عملت بسحب الوحدات البرية على التقليل من الهجمات المعادية، والتي قد تأتي من إيران، بل يرتبط الأمر في آن واحد بالصين. فإذا تعلق الأمر بخلافات مع ايران، فإن ذلك متصل في الوقت نفسه بالصين، فهي أكبر مشتري للنفط الايراني، كما أن التشابك مع إيران جزء هام من مبادرة طريق الحرير الصينية.
من الصعب أن تتخلى أمريكا عن المنطقة، فهي تقع على نطاق رقعة استراتيجية تمكنها فرض نفوذها وتهديد خصومها، لكنها تسعى لتقليل حجم المخاطر والكلف إلى الحد الأدنى، وتعمل على ممارسة مزيد من الضغوط القصوى على المنافسين المحتملين، وزيادة الكلف وخلق التناقضات.
فحسب الكاتب الأمريكي بلال بالوتش في مقال في "مجلة فورين بوليسي" الأمريكية، فإن الانسحاب الأمريكي من شمال سوريا بداية للتنافس بين قوى عربية ودولية، وقد يعيد الحرب التي بدأت قبل نحو ثمانية أعوام إلى أوجها مرة أخرى، فمن المحتمل أن تظهر انقسامات أعمق بين روسيا وإيران وتركيا، وهي ثلاثة أطراف كانت في السابق متحدة في معارضة مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، رغم أن قادة هذه الدول تعمل على حل النزاع في سوريا.
خلاصة القول أن الاتفاق الأمريكي التركي حول "المنطقة الآمنة" شمال وشرق سوريا، ينطوي على غموض مقصود، يقع في إطار استراتيجية أمريكية براغماتية في ظل سياسة ترامبية داروينية فجة، ويصعب أن يطلق عليه اتفاقية أصلا، فهو تفاهم شفوي ينطوي على استخدام مصطلحات إشكالية، وتعريفات فضفاضة غير محددة. ومن الجلي أن أمريكا لن تنسحب من سوريا، بل ستقلل من كلفة وجودها إلى الحد الأدنى، في ذات الوقت الذي ترفع فيه الكلفة على خصومها ومنافسيها، ومن السذاجة تصديق خرافة الانسحاب الأمريكي من سوريا، وتركها ببساطة كهدية لأشد منافسيها وخصومها، فأمريكا تؤسس بخطوتها فصولا جديدة من النزاعات في المنطقة.