هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
فقدت شهادة "الدكتوراه" هيبتها العلمية المعروفة في الجزائر بشكل مؤلم، وسقطت هذه الشهادة التي كانت حلم الكثيرين من عليائها سقوطا حرا، حتى صارت في متناول كل من هب ودب، يطمع فيها الجاهل قبل المتعلم، وينجح في المسابقات الخاصة بها طلبة دون المعدل، وأحيانا بعلامة صفر فاصل من عشرين، ما يؤشر إلى حالة من الانهيار العام للمنظومة التعليمية والجامعية تحديدا، وقد أدى ذلك إلى حالة من السخط الواسع في أوساط الطلبة وأساتذة الجامعات، خاصة مع حلول مواعيد المسابقات الخاصة بالدكتوراه، والتي شهدت هذا العام مهازل غير مسبوقة.
وتتجه جل الاتهامات في التسبب في هذا الوضع الكارثي، إلى اعتماد الجزائر لنظام (الأل أم دي) الذي يعني نظام (ليسانس، ماستر، دكتوراه) منذ العام 2004، لتعويض النظام الكلاسيكي، بعد أن تم استيراده من أوروبا (فرنسا تحديدا)، في محاولة ظهرت أنها بائسة، كونه لا يتوافق مع طبيعة المجتمع الجزائري ووضعيته الاقتصادية، ومع ذلك فقد أصر نظام بوتفليقة وقتها على فرضه، بغرض إغراق البلاد بأعداد هائلة من حاملي الشهادات الجامعية العليا المزيفة، في مقابل انعدام شبه كلي للنوعية والطاقات العلمية الحقيقية.
لقد لعبت السياسة العرجاء، دورا قاتلا في تحطيم المنظومة العلمية الوطنية، ولعله الانتقام السياسي لحكام جهلة، لم يدخلوا يوما الجامعة، هي من تكون وراء هذه الجريمة العلمية، ذلك أنه إذا دخلت السياسة المجال العلمي لن يكون للبحث العلمي معنى، ولا لأصحاب الشهادات العليا مكان أو قدر، وقد تطور الأمر إلى أن بات أصحاب الحرف (د) في الغالب، يعانون حالة إحباط نفسي، جراء حالة النكران التي يواجهونها، سواء من المجتع أو في سوق العمل.
نظام (الأل أم دي) المتهم الأول
منذ أن تم اعتماد نظام (أل أم دي) في الجامعات الجزائرية عام 2004، وتعميمه بعد ذلك العام 2011، انقلب وضع الجامعة الجزائرية رأسا على عقب، وبدأت أعداد المتخرجين وحاملي الشهادات العليا في التضخم غير الطبيعي من دون أن يحمل أصحابها ما يثبت جدارة الشهادة التي يحوزونها، عبر منظومة وجدت أصلا لبيئة غير البيئة الجزائرية، واقتصاد غير الاقتصاد الجزائري، كونه نظام "تكوين تحت الطلب"، طبقته الدول الأوروبية التي تعرف نموا اقتصاديا مرتفعا، ومناصب عمل شاغرة، وتحتاج إلى يد عاملة مؤهلة في مدة قصيرة، في حين وجد المتخرجون من الجامعات الجزائرية وهم بمئات الآلاف سنويا (بينهم الآلاف من حملة شهادة الدكتوراه)، أنفسهم ينتظرون في طابور البطالة، لانعدام أو قلة مناصب العمل المرتبطة بالاقتصاد الريعي المتخلف، وبالنتيجة لا شغلا حصلوا، ولا تكوينا عاليا محترما نالوا.
وإذا كانت حجة الداعمين لهذا النظام في البداية، هو تحقيق الاندماج مع العالم الخارجي، والاعتراف بالشهادة الجامعية الجزائرية دوليا، فإن النتائج الكارثية لهذا الاختيار غير المدروس، قد جعل الأسرة الجامعية تعترف اليوم في مجملها بفشل هذا النظام عن تحقيق أدنى أهدافه، وقد أثبت استفتاء قام به المجلس الوطني لأساتذة التعليم العالي والبحث العلمي، حول هذا النظام، معارضة 91 بالمائة من المصوتين له ومطالبتهم بالتخلي عنه، والعودة إلى النظام الكلاسيكي القديم، الذي كان يحترم الشهادة الممنوحة، فلا ينجح في مسابقة "الماجسيتر" سوى 3 بالمائة من طلبة الليسانس، في حين يكون المرور إلى الدكتوراه بمثابة الحصول على شهادة نوبل بالنسبة لأي طالب باحث، لما لتلك الشهادة من قيمة كبيرة في الجامعة ووسط المجتمع كله.
ومن الغريب، أن الدكتوراه في نظام (أل أم دي)، التي قد يصل إليها أي طالب مهما كان مستواه، شريطة الالتزام بالدوام وتحصيل بسيط، لا تؤهل أصحابها للمشاركة في مسابقات التوظيف، لأن أعداد حاملي هذه الشهادة بات بأعداد مهولة، بسبب الشعبوية التي حكمت منظومة الحكم طوال الفترة الماضية، وجعلت من حكم بوتفليقة يفتخر بأعداد الناجحين في الباكالوريا، وأعداد الجامعيين، وأعداد الجامعات، وأعداد حملة الدكتوراه، بغض النظر عن القيمة العلمية لكل ذلك.
بطالون برتبة دكاترة
في صورة مأساوية كتبت عنها الصحافة الجزائرية قبل مدة، تحدث دكتور جزائري عن معاناته من البطالة، وكيف استقر به الوضع إلى بائع على طاولة تبغ ومكسرات في قارعة الطريق، الدكتور المسكين قرر أن ينتقم بطريقته عبر نسخ شهادته للدكتوراه في أوراق، ووضعها أغلفة "للكاوكاو" الذي يبيعه.
تلك كانت صورة لبداية مأساة صارت اليوم تمس الآلاف، بسبب شح المناصب المفتوحة للتوظيف سنويا، حيث تشير الإحصائيات فتح 5 آلاف منصب دكتوراه سنويا، في حين لا يتجاوز عدد مناصب التوظيف للمتخرجين 3 آلاف منصب سنويا، ما يعني أن حوالي ألفي دكتور بطال يتخرج سنويا من الجامعات الجزائرية، وبالعودة إلى السنوات الماضية منذ إقرار نظام (أل أم دي)، فإن أعداد الدكاترة بلا عمل في حدود 20 إلى 30 ألف دكتور بطال.
وأمام هذه الوضعية الصعبة، أصبحت مطالب حملة الماجسيتر والدكتوراه، منصبة علاوة على فتح مناصب توظيف جديدة، في المطالبة بالتقليل من مناصب التكوين في الدكتوراه أو توقيفها مؤقتا إلى أن يتخرج الطلبة الجدد ويتم استيعابهم في سوق العمل.. لأن سياسة إغراق السوق الحالية بحملة الدكتوراه، جعلت من الدكتور أقل حظا من "السباك" في سوق العمل، وجعلت من الدكتور أقرب إلى عامل النظافة من حيث القيمة الاجتماعية والمهنية.
علامات دون المعدل وتكوين كارثي
يرشح البروفيسور في القانون محمد صالح سهيل (جامعة قسنطينة) طريقة المسابقة لهذه الشهادة العليا من البداية، فيشير إلى أن لجنة صياغة الأسئلة والتصحيح تجتمع صباحا ويتم اقتراح أسئلة من كل أستاذ مستدعي وبالقرعة يتم اختيار سؤال يطبع ثم ينزل به للطلبة، غير أن معظم الأسئلة التي تابعناها في العلوم الإنسانية والاجتماعية مثلا، وجدناها أسئلة عامة في سطر يتضمن فكرة يطلب من الطالب تحليلها لا أكثر.
ويوضح البروفيسور محمد صالح سهيل لـ "عربي21" أن هذه الأسئلة هي في الغالب إقصائية، إذ تخضع لمنهجية ولمحاور معينة، وتصاغ في مقدمة وعرض وخاتمة، ما يجعل السلطة التقديرية للمصحح هي الطاغية، ويعطي فرصة للتحكم والتعسف في التقييم. بمعنى أنه إذا صادف وأن الطالب توافق وما يريده المصحح نجح وإذا صادف ولم يتوافق رسب، وقد وجدنا أن المصحح في أحيان كثيرة هو الذي لم يكن موفقا، إذ كيف لمصحح يضع السؤال في ساعة صباحا يطبع ثم في ذات الساعة يحضر إجابة نموذجية توزع على بقية المصححين للتداول فيها وهي التي تقر كنموذج يتقيد به كل المصححين وبسلم نقاط محدد؟ لذا نجد أن معظم الطلبة يدعون أنهم فعلا أجابوا لكنهم لم ينجحوا، والسبب أن السؤال وسلم التنقيط الموضوع والإجابة لم تتوافق فقط واتجاه المصححين.
ويوضح البروفيسور محمد صالح سهيل العملية أكثر بالإشارة إلى أن الأسئلة العامة مفسدة مثل "حلل فكرة العقد شريعة المتعاقدين". أو "الصحافة علم وفن" وهكذا ...
أما المترشحون للمسابقة، فيتم انتقاؤهم وفق ملف إداري يتضمن كشوفهم ويرتبون بحسب معدلات تخرجهم في مرحلة دراستهم السابقة تصنيف أ و ب و ج وفي كل صنف فئة، ما يعني حرمان البقية، وتتذرع الإدارة بكثرة الأعداد وعدم القدرة على استيعاب الجميع، علما أن تلك المعدلات التي من خلالها يتم التصنيف لا تعبر دائما عن قدرة هذا الطالب لأن يكون باحثا، فبالتجربة وجدنا طلبة بمعدلات متوسطة أفضل ممن لهم معدلات مرتفعة من حيث القدرة على البحث والإنتاج المعرفي.
أما بخصوص التكوين، فيخضع الطلبة لتكوين في سداسيات ستة وأثناءها يسجل الطالب موضوعا، غير أن هذا التكوين كارثي إذ يتم بشكل اعتباطي لا يتبعه تربص أو تكوين في مراجع محددة، محاضرات عامة في الاختصاص أو ورشة تتناول دراسة موضوع.
أما مداومة الطلبة في المخبر ففي كثير من الأحيان لا تتم لعدم وجود مخابر تعمل فعليا بجد، أما الموضوعات التي تسجل كمشاريع بحث فهذه فيها وعليها، فهناك عبثية وعدم انضباط وعدم التزام وعدم تقدير للمسؤولية في كل هذا الذي ذكرنا.
ويخلص البروفيسور محمد صالح سهيل إلى الكارثة الأكبر برٍأيه أن الصنف (أ) من الطلبة الذين ترشحوا لاجتياز مسابقة الدكتوراه كان من المفروض أنهم الأحسن لأن المعيار هو معدلاتهم العالية، غير أنه بعد تصحيح الإجابات في المسابقة، نجد الناجحين بمعدلات أقل من علامة عشرة على عشرين وأحيانا يكون كل الناجحين تحت علامة 5/20. لأن المطلوب هو نجاح نسبة محددة من الطلبة بغض النظر عن معدلاتهم في المسابقة.
إنه المسخ العلمي
بدورها دقت الدكتورة فريدة بلفراق (أستاذة بجامعة باتنة) ناقوس الخطر، موجهة أصابع الاتهام مباشرة إلى نظام (ال.ام.د) المفروض برأيها "سياسيا على الجامعات الجزائرية عنوة وهو من يقف وراء تدمير المنظومة الجامعية بأكملها".
وتذهب الدكتورة فريدة بلفراق في حديثها لـ "عربي21" أبعد من ذلك، إلى وجود عوامل كثيرة أخرى وراء تراجع المستوى، ومنها انهيار الأخلاق والقيم، تقهقر أخلاق الأساتذة والطلبة، انتشار الغش الذي أصبح قاعدة عامة، وانتشار علامات التلفون على غرار عدالة الهاتف.
وأضافت الدكتورة بلفاراق: "إننا حاليا أمام حالة من المسخ العلمي، وأمام حالة من العفن في الوسط الجامعي بسبب المسؤولين الفاسدين، وأنه لا حل في الأفق، إلا تغيير النظام وإزالة كل الأخطاء والكوارث التي نشرها وكرسها لسنين طويلة وهذا هو نضالنا جميعا اليوم.
دكاترة لا يحسنون القراءة والكتابة
ويشرح الدكتور رشيد ولد بوسيافة (باحث في التاريخ) ظاهرة سقوط شهادة الدكتوراه هذا السقوط المريع، والنتائج الكارثية المسجلة في مسابقات الدكتوراه، إلى تراجع المستوى العام للطلبة جراء السياسات الخاطئة والقرارات الشعبوية للسلطات والتي حولت الجامعات الجزائرية ـ برأيه ـ إلى ثانويات كبيرة، فأصبح لكل مدينة جامعتها وبات الطالب الجزائري ينال شهادة الدكتوراه دون أن يغادر ولايته.
ويضيف الدكتور ولد بوسيافة: لـ "عربي21": "إن التحول العبثي إلى نظام (الأل، أم، مدي) الذي لا يصلح إطلاقا للحالة الجزائرية، كان سببا جوهريا في ما وصلنا إليه، فلا تركوا الجامعة تقدم تعليما عاليا كلاسيكيا، ولا نجحوا في ربطها بالمحيط الاقتصادي والمؤسساتي.
كما أن نظام التقييم المعتمد كارثة أخرى، إذ يكفي الطالب أن يحضر الدروس ويكون سلوكه حسنا ويشارك ببحث يسحبه من الأنترنت ليحصل على 12 من 20. ولو كان لا يحسن القراءة والكتابة.
أما بحوث الماستر فهي فضيحة بجلاجل، إذ تقدم مذكرات مسروقة سلخا من بحوث ماجستير ودكتوراه وتجرى لها مناقشات شكلية بلا تقارير خبرة وينال الطالب نتائج كاملة في أغلب الأحيان.
ويخلص الدكتور بوسيافة إلى أن الحلول لا تكون إلا بفتح نقاش حول وضع الجامعة والتراجع عن نظام (الأل، أم، دي) إن تطلب الأمر، ووقف عملية التمييع الممنهح بفتح كل التخصصات في كل جامعة.
يا فؤادي رحم الله الهوى ..
ما بقي هو الترحم على أيام زمان، على طريقة (يا فؤادي رحم الله الهوى، كان صرحا من خيال فهوى)، حين كانت الشهادة الابتدائية تفرش لصاحبها بساط الاحترام، لما لقيه صاحبها من تحصيل، وإلى وقت قريب كانت شهادة الباكالوريا في الجزائر، تحمل مدلولات علمية واجتماعية غاية في الرفعة، ولم يكن الحصول عليها متاحا لمن هب ودب، لكن وبعد أن دخل التخريب المنظومة التعليمية، تحولت الباكاوريا إلى شهادة لتوزيع الغباء بامتياز، وشيئا فشيئا، تحول "الغش" إلى حق طبيعي، إذ حدث أن خرج بعدها بعض الراسبين في الشهادة في مسيرة تطالب بحقهم في الغش !
اليوم انتقل الفيروس الخطير من الباكالوريا، إلى الليسانس، وإلى الماستر، ليستقر أخيرا عند أعلى شهادة علمية وهي الدكتوراه، ما أثر مباشرة على نوعية النخب الثقافية والسياسية الحالية في الجزائر، وجعل منها بعيدة كل البعد عن مواكبة التطورات الحاصلة في المجتمع، وعاجزة بالتالي عن تقديم الحلول والبدائل الموضوعية، أو على الأقل تقديم مرشحين لمنصب الرئاسة في مستوى يليق بقوة ومكانة الجزائر.
ما هو مطلوب اليوم بشكل مستعجل، هو أن تعود لهذه الشهادة العليا مكانتها كشهادة نخبوية ليست في متناول الجميع، ولن يحدث ذلك إلا بعد القبول بمبدأ (دمقرطة الجامعة)، وجعل المناصب الادارية في الجامعة بالانتخاب لا بالتعيين، وذلك هو جوهر معركة الجزائريين اليوم، في مسعاهم الشعبي العظيم، نحو المطالبة بدمقرطة الدولة، والتخلص من الشمولية التي تسعى لتوسيع دائرة الجهل حتى نخبة النخبة، وذلك هو الطريق الوحيد لإعادة الاعتبار لمفهوم التحصيل العلمي والبحث العلمي، والطريق الوحيد للاعتذار من حالة المس هذه بكرامة الدكتور الحقيقي.