مدونات

أريد أن أعرف لماذا ضاع الوفاء في هذا الزمن؟

معاذ محمد الحاج أحمد
معاذ محمد الحاج أحمد
شهدت الآونة الأخيرة ميلاد أزمات سياسية كثيرة، ومخاض هزات مجتمعية مستجدة، لا بد أن توضع تحت الضوء، ويتناولها الكاتب عرضاً وتفصيلاً وتأصيلاً. إذ لم يطرق أبوابها طارق، ولم يتناه إلى زواياها باحث ولا محقق. ومع ذلك طرحت جميع الأفكار هذه جانباً، وآثرت أن أتحدث عن مسألة خطيرة أصبحت كالوباء يتفشى بين الناس، ألا وهي ظاهرة انعدام الوفاء والتنكر للجميل ومقابلة المعروف المسدى بالإساءة المتعمدة، بل ومحاولة النيل من فاعل الخير وصفعه بالتهم الباطلة جزاءً لما قدم من وجوه الإحسان.

هذا الموضوع يذكرني بحكمة كانت منقوشة على تحفة احتفظت بها أيام الصبا ردحاً من الزمن تقول: "اتقِ شر من أحسنت إليه"، لكني لم أعطِ الحكمة هذه حقها من التأمل والتفكير في تلك المرحلة الباكرة من العمر؛ فقد كان هذا الأمر بالنسبة لي شيئاً مستبعداً ومستفزاً، فكيف أخاف من أناس كنت لهم عوناً بعد الله سبحانه وتعالى؟ ولماذا يقدم هؤلاء على نسيان الماضي وأكل لحوم أصدقائهم أحياءً؟ كان الأمر في غاية الاستغراب إلى أن دمغتني المواقف بأناس لا يعرفون من الوفاء إلا اسمه، ولا يعزفون على أوتاره إلا إذا كان اللحن يتوافق مع شهواتهم ونزواتهم اللئيمة.

طافت بي خواطر كثيرة، ودارت في خلدي تساؤلات عديدة، فليس بالأمر الهين أن يلدغ الإنسان من أقرب الناس إليه، وأن تخرج السهام من أكنتها إلى صدر لم يحمل صاحبه سوى قلبٍ طيبٍ يكن الحب والخير للجميع، ويتسامح مع خصومه في أصعب المواقف، ويعفو بكل تواضع عن الجوارح التي طالته بسوء عن عمد أو غير عمد. ليس بالأمر السهل أن تجد الغدر والغش والفجور من أعضاء من بني البشر كنت تضعهم في خوالي الأيام وطوارق الليالي محل الثقة والطمأنينة، وتفضي لهم بسرك إذا ما تزاحمت عليك الهموم واضطرمت في صدرك نار الأحزان والغموم لما تموج به الأيام من أحداث ومواقف.

ليس سهلاً أن ندرك قيمة الوفاء إذا لم نضع في الحسبان أن هذا المبدأ الأخلاقي السامي هو ميثاقٌ أخلاقيٌ وحسٌ وجدانيٌ ونصٌ سلوكيٌ للإنسان السوي، لا يمكنه ممارسة فصول حياته والتمتع بطيباتها ولذائذها بالقفز عنه، أو اعتباره عاملاً ثانوياً يمكن معالجة الأعراض المؤقتة الناجمة عن اعتلاله أو ضياعه. وبقدر ما هو التزام أخلاقي وسلوكي، تبرز قيمة الوفاء كأساس اجتماعي وركيزة عضوية تتداخل من خلالها الكثير من العلاقات، وتتمازج الأواصر بين الأفراد، وتتآخى جميع عناصر الدورة الدموية للعرق البشري.

وأزمة الوفاء التي تعاني منها مجتمعاتنا اليوم هي نتيجة لاضطراب أعمق وأكثر شراسة ألا وهو اضطراب الذاكرة التي جبلت على إنكار بعض فصول الماضي، ونيسان الأحداث التي وإن كانت نعمة وسنة كونية في بعض المواقف الاجتماعية، إلا أنها نقمةٌ ووبالٌ عظيمٌ في مواقف أخرى، إذ لايجوز للذاكرة أن تعبث بأحداث مجيدة لأخيار جادوا علينا بالبر والإحسان في لحظات الشدة، ولا يجوز لها كذلك أن تمحوا هذه السرديات من سجلاتها وأرشيفها كي لا تصبح الخيانة هي القاعدة وما سواها شاذٌ عن المألوف.

يفترض الوفاء بمفهومه الفلسفي المجرد حالة من الصمود الدائم بين أطراف العلاقة،والترفع عن نزوات الحياة، والثورة على علائق النفس والهوى، إلا أن هذه القيمة الأخلاقية وضعت من قبل الكثير ومع سبق الإصرار على احتكاك مباشر مع جميع المباريات الحياتية والظروف الاجتماعية؛ بذريعة الطبيعة اليوتوبية للمفهوم التي باتت مبرراً مقنعاً للانتقال السلس من محتوى اجتماعي إلى آخر دون تأنيب النفس أو محاسبة الضمير. وبذلك خضع مفهوم الوفاء لتغيرات بندولية عنيفة، وأصبحت الخيانة ونكران الجميل عرفاً سائداً ومقبولاً، وبرزت القيم السامية محل نقض وتشهير في عالم يؤمن معظم أطرافه بضرورة اللعب بجميع الأوراق.

مسألة أخرى في غاية الخطورة هي أن الكثير أصبح يقرن مفهوم الوفاء بالسذاجة، ويحاول الربط بين هذه القيمة الرفيعة والفشل في بعض التجارب الحياتية، وتراجع مستوى الإنجاز؛ ظناً منهم أن تناول هذا المفهوم بهذا الأسلوب البدائي الذي يعود لزمن ملاحم الجاهلية وصولات فرسانها وجولات خيولها لم يعد يحظى بموقع يعتد به في هذا الزمن، بعد أن أصبحت العلاقات أكثر تشابكاً والمصالح أكثر تعقيداً. فما قيمة الوفاء بالنسبة لهؤلاء إذا كان يورث صاحبه الحرمان من بعض الفرص، ويمنعهم من التضحية الدائمة بأطراف العلاقة لتحقيق سعادتهم، ويعلق لهم مشنقة اسمها الضمير تمنعهم من التقلب على جميع الوجوه؟!

نحن لا نرى جميع الأشياء القاتمة عندما نبني اختياراتنا مع من سنقضي معهم بعضاً من قابلات أيامنا؛ فالنفس البشرية مجبولة على إظهار أنبل ما فيها وتعظيمه، وستر عيوبها عن عيون الناظرين. ولربما نكتشف في مراحل متأخرة عيوباً لم نكن نراها في البدايات؛ ليضطرم صراع تلقائي مشروع بين سد الثغرة واصلاح الخلل وجسر الهوة، يقابله صراع آخر يدفعنا إلى قطع أواصر الصداقة والتنازل عن بعض الجوانب البديعة والمبهرة التي من أجلها كان قرار الشراكة.

وبذلك يعبر الوفاء عن مدى استعداد الطرفين لدفع ثمن العلاقة بإرادة حرة وسخية، والمبادرة إلى تقديم المزيد من التنازلات مهما كانت قاسية ومؤلمة. ولربما كان الوفاء سبباً في حرماننا من بعض المنافع والامتيازات، فلا بد أن نسلم بهذا الأمر ونقبل عليه عن طيب نفس، عندها نضمن لهذه القيمة الرفيعة الاستمرار والتجذر.

إننا نبني علاقتنا في الواقع على أساس لم نحدد فيه شروط الوفاء، ولم نضع محددات عملية لطبيعة الشخصية التي نرغب في مصاحبتها، وإنما تأتي في كثير من الأحيان عن طريق الصدفة أو القدر إن شئت من خلال المزاملة أو المصاحبة في الحي أو المدرسة أو الجامعة أو المسجد، وبذلك لم ينطلق الطرفان من خلال معلومات كافية أو اعتبارات دقيقة أو مواقف تجريبية تمنحنا القدرة على موافقة الواقع بحلوه ومره.

وتلعب طريقة التعبير عن الوفاء، واختلاف تفسيراتها من فرد إلى فرد، ومن مجتمع إلى آخر، الدور المهم في استمرار العلاقة بين الأطراف، أو تعرضها لهزات وعواصف قد تضعفها أو تكتب لها نهايتها المبكرة؛ فالأسلوب الذي يحمل هذا المبدأ الأصيل يجب أن يكون واضحاً لا يحتمل الالتواء والانزواء، والرسالة المنقولة لا بد وأن تكون مجردة من المصالح والشهوات وكل وسيلة يمكن أن توقع الشك والريبة بين الأطراف، وتزرع في نفوسهم بذور الخوف والتفكك.

وفوق كل اعتبار، ليس بالأمر الممكن أن تقيم علاقة رصينة وتحافظ على ديمومة الوفاء دون أن يكون لدى الطرفين شخصية متوازنة ومستقلة لا ترضخ للإملاءات، ولا تتخبط في المواقف، ولا يتلاعب بها كل حاسد وباغض، ولا تستجيب للنافخين في نار الفتنة والفرقة لتحقيق السيادة والتفرد. وبهذا المنطق لا يلغي أي طرف الآخر، أو يهدر كرامته، أويصادر وجوده، أو يضعه على الهامش لا يعود له إلا عند المصلحة والشهوة.

ومهما حاولنا تثبيت هذه القيمة في زوايا النفس البشرية، فإن ممارسة الوفاء على أصوله لا يمكن له أن ينمو ويزدهر دون وجود شبكة قيمية أساسية متكاملة قوامها: "الصدق والأمانة والوقار والحلم والعدل والقوة" وغيرها من الصفات الأخلاقية الرفيعة؛ فالغرس لا يترعرع في الأرض اليباب والرمال القاحلة التي تعجز عن مد النبتة بأسباب الحياة ومقومات البقاء. لذلك نجد أن العلاقات التي تنشأ بين أفراد لا يملكون منظومة مقنعة من مكارم الأخلاق، لا تظهر بينهم قيمة الوفاء، وإذا ظهرت تكون طارئة وتختفي بعد وقت قصير بمجرد انقضاء المصلحة.

وأسمى مراتب الوفاء هو أن يكون الإنسان وفياً مع الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه، ثم وفياً لوالديه ببرهما والإحسان إليهما، وللزوجة والأولاد بحسن العشرة وطيب المعاملة، وللوطن بتقديم كل ما يعمل على رفعته، وهكذا تتدرج دروب الوفاء في متتالية أخلاقية تضعنا أمام مسؤولية صعبة وتقييم دقيق. وبقدر ما تتآلف وتتمازج مستويات الوفاء ودروبه بقدر ما تصبح هذه القيمة أكثر ثباتاً عند الإنسان وأكثر قدرة على المواظبة؛ لا سيما في المحكات الصعبة والظروف القاسية.

نحن نعيش في زمان نعتقد أن من حولنا هو الخيار الصحيح، والشخص المناسب لنستكمل سوياً باقي مراحل العمر إلى أن ينقضي الأجل، ثم نكتشف أننا كنا نعيش مع خرقة قماش اسمها القناع، وسراب اسمه الصديق، ولم نرَ الوجه الحقيقي لهذا الإنسان المخادع إلا بعد وقت متأخر. لم نرَ ابتسامته الصفراء، ومجاملاته الباردة، وعباراته الفجة، إلا عندما خلع القناع، وأقبل بوجهه الحقيقي، بعدما زالت المصلحة، ولم يعد بحاجة إلينا، أو أصبح له فسحة من الخيارات يتنقل بينها كيفما شاء ومتى أراد.
التعليقات (0)