نظريا، كان من المفترض أن تقع الحرب بين
إيران وأمريكا منذ أربعة عقود، وطوال هذه المدة كانت أسباب الحرب وموجباتها متوفرة وبكثافة. وفي العقدين الأخيرين، أصبحت الحرب بينهما أكثر الحوادث توقعا، بعد أن أصبحتا تنشطان ضمن نطاق جغرافي وحضاري واحد، حتى إن الجغرافيا نفسها ضاقت ذرعا من ثقل وجودهما.
في مراحل عديدة، وفي الحسابات النظرية أيضا، نضجت الحرب واكتملت شروطها، غير أنها لم تقع، عندما احتجزت إيران 52 موظفا في السفارة الأمريكية في طهران، من تشرين الثاني/ نوفمبر 1979 إلى كانون الثاني/ يناير 1981، وعندما دمّرت الجماعات الموالية لإيران مقر المارينز بيروت في تشرين الأول/ أكتوبر 1983، ثم قيام الولايات المتحدة الأمريكية بإسقاط طائرة ركاب مدنية إيرانية في تموز/ يوليو 1988، ثم الاحتكاكات في العراق بين أعوام 2004 و2009، والتنازع في سوريا منذ 2013، وصولا إلى اغتيال أمريكا لقائد الحرس الثوري قاسم سليماني، الذي يصنف على أنه الرجل الثاني في هرمية السلطة في إيران.
لقد اختبر الطرفان كل درجات التوتر ومناخات
الصراع، ورغم ذلك استطاعا القفز عن الحرب، مع أن حوادث أصغر من ذلك بكثير بين أي دولتين كانت ستؤدي إلى حرب، دون أن ننسى أن اغتيال وريث العرش النمساوي الأرشيدوق فرانز فرديناند، قد أشعل حربا عالمية راح ضحيتها أكثر من 37 مليونا، وخلفت دمارا هائلا في أوروبا وبعض مناطق آسيا. كما أن الولايات المتحدة الأمريكية شنت غارات على ليبيا سنة سنة 1986 في عملية سميت عملية "الدورادو"، شاركت فيها 66 طائرة بالإضافة إلى قطع البحرية الأمريكية، وذلك نتيجة انفجار قنبلة في ملهى ليلي في برلين الغربية أسفر عن مقتل جنديين أمريكيين، وادعت أمريكا أنها حصلت على نسخة برقية من عملاء ليبيين في ألمانيا الشرقية، شاركوا في الهجوم.
إذا، كيف استطاعت أمريكا وإيران، رغم هذا التاريخ الصراعي المديد، عدم الانزلاق للحرب والاكتفاء بالحروب اللفظية أو الردود البسيطة هنا وهناك؟
السبب المؤكد هو اتفاق تفضيلات الطرفين، ذلك أنه على الدوام كانت لهما تفضيلات أخرى غير الحرب بينهما، فطالما وقعت الأحداث في أزمان مفصلية تحكمت بقرارات الطرفين، مثل انشغال الولايات المتحدة الأمريكية كلية بالحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي، وغرق إيران بمستنقع الحرب مع العراق، ثم في مرحلة لاحقة انشغال أمريكا بالحرب على تنظيم القاعدة وغزو العراق، وانشغال إيران باستثمار سقوط صدام حسين في العراق وضعف طالبان في أفغانستان.
لكن الأهم من كل ذلك، ظهور المجال العربي كحيز لتحقيق مصالح الطرفين، وتفضيل هذا الأمر عما سواه، خصوصا أن الطرفين كانت لديهما القدرة على اقتسام المنافع وإدارة الصراع بينهما بأساليب أخرى غير الحرب، بل وتوظيف الطرف الآخر في لعبة الحصول على المصالح وتعظيمها، وكان من شأن ذلك جعل الحرب بينهما تنزاح إلى الخلف، إلى مجال العداء اللفظي، ليحل بدلا منها جني المنافع وانتهاز الفرصة التي يصعب تعويضها.
على ذلك، لم تعد الولايات المتحدة الأمريكية معنية بالحرب على إيران، لأن ذلك سيوقف تدفق أموال الخليج العربي على شركات السلاح الأمريكية، لو تكفلت أمريكا بإنهاء الخطر الإيراني، وربما تذهب دول الخليج إلى المطالبة بعلاقات أكثر توازنا مع واشنطن، هذا إن لم تبحث عن بديل آخر، وخاصة في ظل ظهور أوروبا الموحدة والصين كقوّتين ناميتين، كما لم تعد إيران معنية بحرب مع أمريكا طالما هي تسيطر على الأرض العربية بذريعة مقاومة إسرائيل وممانعة أمريكا، وأي حرب مع الأخيرة ستكشف أوراقها وتخرجها من دوائر التنافس وتؤثر على حضورها في المنطقة.
وعلى ذلك أيضا، تصبح الحرب بين الطرفين مستحيلة، لأن الأوضاع العربية مرشحة للبقاء على ما هي عليه لفترة طويلة قادمة، في ظل إدارات سياسية لا يعنيها سوى تحقيق المكاسب الآنية وقمع شعوبها والاستحواذ على السلطة إلى الأبد. ستستمر أمريكا بالغَرف من المال العربي بذريعة الحماية من إيران التي لو تفلتت من الرقابة الأمريكية، ستنقض على الخليج العربي في ليلة وضحاها، بالمقابل ستستمر إيران في بناء إمبراطوريتها في حديقتها الخلفية العربية بذريعة المقاومة، والأهم من ذلك، بسبب تخاذل العرب تجاه القضية الفلسطينية، وإبراز إيران نفسها كحامي ومدافع عن مقدسات العرب وحقوقهم.
الحرب مستحيلة بين أمريكا وإيران طالما تعيشان عصر الغرف من منجم المنافع العربي المفتوح دون رقابة أو حراسة، وطالما هناك انقسام عربي وكل محور يؤيد طرفا من طرفي اللعبة.