دعا نشطاء
تونسيون يعيشون في المهجر رئيس بلادهم قيس سعيد إلى قيادة بادرة للمصالحة الوطنية الشاملة، وأكدوا أن ذلك هو المدخل الصحيح لأي استقرار سياسي مطلوب في تونس.
جاء ذلك في
رسالة وجهها كل من الحقوقي والناشط السياسي عبر العزيز عقوبي، والدكتور في علم الاجتماع الحضري حافظ جويرو، إلى الرئيس قيس سعيد وحصلت
"عربي21" على نسخة منها.
وأكدت الرسالة أن تونس لم تحقق في العقد الأول من عمر الثورة الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي المطلوب، وأن مرد ذلك يكمن في عدم انتهاج
مصالحة وطنية شاملة لا تستثني أحدا وتطوي صفحة الماضي بشكل تام.
وأوضحت الرسالة أن مطالبة الرئيس بقيادة مبادرة المصالحة الوطنية، تأتي انسجاما مع شعارات الرئيس نفسه التي رفعها في حملته الانتخابية.
وقالت: "تأتي مبادرتنا هذه كتفاعل إيجابي مع الشعار الذي رفعتموه خلال حملتكم الانتخابية والمثل في (الشعب يريد). لقد دغدغ هذا الشعار مشاعر أبناء وطننا سواء كان التفاعل معه إيجابيا أم سلبيا؛ لأنه يتضمن معاني سامية؛ من حيث احترام الإرادة الشعبية والسعي إلى تحقيقها وتجسيدها. ومن تحدث عن إرادة شعبية حرة ومتحضرة وتواقة إلى الارتقاء والتطور، حضر في ذهنه عدم الإقصاء والمصالحة بين أبناء الوطن الواحد، وتشريك النخب الفكرية والثقافية والاستفادة من الطاقات والكفاءات كافة، عبر مساهمتها في رسم معالم الطريق الذي يجب انتهاجه ونحت المشروع المجتمعي المؤهل، بمستوياته المختلفة".
وأعرب الموقعون على الرسالة عن رغبتهم في لقاء الرئيس من أجل شرح مبادرتهم له قبل عرضها على الرأي العام الوطني، مشددين على أنها يجب أن تنطلق من رؤية شاملة تأخذ بعين الاعتبار حاجة البلاد إلى كل أبنائها، وحاجة المشروع التنموي لكل طاقات البلاد دون إقصاء.
وبعد أن قدمت الرسالة مبررات مبادرتهم الواقعية والعقلية التي تتطلبها مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية، استشهدوا بتجربتي المصالحة في كل من رواندا وجنوب أفريقيا، وتمكن البلدين من تحقيق تنمية اقتصادية وسياسية متطورة.
والمصالحة الوطنية شعار تم رفعه منذ نجاح الثورة التونسية في إسقاط نظام حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي مطلع العام 2011، وكان الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي أبرز من طرحوا مشروع المصالحة الوطنية، لكنه لم يفلح في تمريرها عبر البرلمان.
وكان رئيس البرلمان التونسي زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي، قد جدد الدعوة في جلسة منح الثقة لحكومة إلياس الفخفاخ الحالية إلى ضرورة التعجيل بمشروع قانون للمصالحة الوطنية، يكون رافعة للانتقال الديمقراطي وللتنمية الاقتصادية المطلوبة.
وهذا هو النص الكامل للرسالة:
السيد قيس سعيد: رئيس الجمهورية التونسية
تحية طيبة تليق بمقامكم وبمقام شعبنا الأبي المناضل
ليون ـ فرنسا في 12 آذار (مارس) 2020
الموضوع: ضرورة المصالحة الوطنية الشاملة ببلادنا تونس الحب والأمل
إيمانا وقناعة بضرورة المصالحة الوطنية الشاملة في بلدنا العزيز تونس، من أجل مجتمع متصالح ومتضامن ومتآزر، وطاوٍ لصفحة الماضي بكل آلامها ومآسيها وتضحياتها، سعينا وطالبنا منذ انتصار الثورة التونسية بهذه المصالحة، لأننا كنا مقتنعين، وهذه هي قناعتنا إلى اليوم، بأنها الطريق الأسلم للمرور إلى مرحلة البناء والتشييد والرقي والتطور وإقرار دولة القانون والعدل، وذلك بمساهمة جميع أبناء الوطن وكفاءاته ومفكريه وقواه الحية.
الآن، وبعد مرور أكثر من تسع سنوات على تغيير السلطة السياسية في بلادنا، لم تشهد الأوضاع السياسية استقرارا، وزادت الأوضاع الاقتصادية تدهورا وتأزما، ولم تتحقق انتظارات الشعب المتمثلة في الكرامة والتشغيل والعدالة والارتقاء بالواقع المادي والمعنوي. بل إن المؤشرات توحي إلى مزيد من تعقد الوضع ومن استفحال أكبر للبطالة، وخاصة تلك التي تتعلق بأصحاب الشهادات.
اعتبارا لهذه الوضعية المؤهلة لمزيد من التردي والتعفن، التي يمكن أن تؤدي إلى انفجار اجتماعي لا يبقي ولا يذر وإلى انهيار مجتمعي تام، ارتأينا أن نتوجه إليكم سيادة الرئيس قيس سعيد بهذه الرسالة؛ من أجل الاقتراح على سيادتكم تبني فكرة المصالحة الوطنية الشاملة التي لا تستثني أحدا، وإجراء استفتاء شعبي عليها؛ من أجل طي صفحة الماضي والتوجه نحو المستقبل بمجتمع متماسك متآزر بأهداف موحدة، تتمثل في الارتقاء بالبلاد والعباد على المستوى المادي والمعنوي، وتحقيق انتظارات مكونات مجتمعنا كافة وعلى جميع الأصعدة.
تأتي مبادرتنا هذه كتفاعل إيجابي مع الشعار الذي رفعتموه خلال حملتكم الانتخابية والمثل في "الشعب يريد". لقد دغدغ هذا الشعار مشاعر أبناء وطننا سواء كان التفاعل معه إيجابيا أم سلبيا؛ لأنه يتضمن معاني سامية من حيث احترام الإرادة الشعبية والسعي إلى تحقيقها وتجسيدها. ومن تحدث عن إرادة شعبية حرة ومتحضرة وتواقة إلى الارتقاء والتطور، حضر في ذهنه عدم الإقصاء والمصالحة بين أبناء الوطن الواحد، وتشريك النخب الفكرية والثقافية والاستفادة من الطاقات والكفاءات كافة، عبر مساهمتها في رسم معالم الطريق الذي يجب انتهاجه ونحت المشروع المجتمعي المؤهل، بمستوياته المختلفة:
السياسة والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية، لتحقيق تطلعات الشعب وآماله وطموحاته.
وباعتبارنا من أبناء هذا الشعب الأبي المناضل، وباعتبارنا ‘‘نريد’’، وهذه الإرادة صادقة وواعية وملتزمة بقضايا شعبنا وعبرنا عنها سابقا، ونعبر عنها الآن من خلال هذه الرسالة الموجهة إلى سيادتكم، وباعتبار أن مطمحنا الوحيد هو رؤية بلادنا من ضمن البلدان المتقدمة والمتطورة والمحققة لطموحات أبنائها والحافظة لكرامتهم وحرياتهم، فإننا نأمل أن يقع التبني من جانبكم لمشروعنا المتمثل في تحقيق مصالحة وطنية شاملة؛ دون إقصاء ودون ضغائن وبقلوب صافية، وبمراعاة تامة لمصالح البلاد والعباد.
إن تبني هذا المشروع لا يعني فرضه أو إسقاطه، وإنما يعني فسح الفرصة له ليعبر عن نفسه من خلال الالتقاء بكم ومن خلال عرضه على الرأي العام الوطني والعالمي؛ لأننا نؤمن أن أبناء بلدنا على درجة كبيرة من الوعي والنضج والفهم والذكاء، الذي يسمح لهم باختيار الأفضل لمستقبل البلاد ولمستقبل الأجيال اللاحقة.
ولإيلاء هذه الفكرة الأهمية التي تستحقها، ارتأينا إيراد جميع المبررات والأدلة التي تجعل من هذه الفكرة مبادرة تاريخية، ترفع من شأن شعبنا بين الدول كما ترفع أيضا من شأن الماسكين بالسلطة السياسية في بلادنا اليوم.
1 ـ مبررات وحجج عقلية:
أ ـ لا يمكن لأي مجتمع أن يتقدم أو أن يرتقي أو أن ينجح في رفع التحديات التي تواجهه، ما لم يسد بين أفراده التآزر والتماسك. فالوحدة الوطنية شرط أساسي من جملة الشروط التي يجب أن تتوفر قبل توفر المشاريع التنموية رغم أهميتها القصوى، إضافة إلى خدمة المصلحة الوطنية والتنازل على المصالح الشخصية التي تتعارض ومصلحة الوطن.
ب ـ تَوفر مشروع تنموي وطني طموح يكون نتيجة لتفكير ولمساهمة القوى كافة الحية والفاعلة للوطن، سواء كانت هذه القوى بداخل البلاد أو خارجها. يحدد هذا المشروع بوضوح تام التوجه العام والمنوال التنموي والخطط والأولويات والآليات ومراحل التجسيد، مع الاعتماد المطلق على إمكانيات البلاد المادية والمعنوية، إذ إنه لا تقدم دون تضحيات ودون انخراط للجميع في هذا المشروع الوطني.
ج ـ الالتفاف حول المشروع الذي يقع بلورته، يمثل شرطا أساسيا من شروط النجاح. فلا نجاح لأي مشروع تنموي وطني، ما لم يتوفر هذا الالتفاف حوله وما لم يشعر الجميع أن الهدف الحقيقي لهذا المشروع هو خدمة البلاد والعباد والارتقاء بالجميع ماديا ومعنويا. إن كان هدف المشروع التنموي تحقيق مصلحة فئة على حساب بقية الفئات، أو مصلحة جهة على حساب بقية الجهات، أو شريحة على حساب بقية الشرائح، فلن يكتب له النجاح أو التوفيق، ولن يزيد الوضع إلا تأزما وترديا.
د ـ في حالة أنه لم يقع تبني مشروع تنموي وطني جدي وصادق يخرج بالبلاد من المأزق الذي تتخبط فيه، فإن هذه الوضعية السيئة والمتأزمة التي تعيشها بلادنا ستسمر وستزداد سوءا وتعقيدا، ويمكن أن تؤدي إلى انفجار اجتماعي يستحيل السيطرة عليه، وربما يكون عدد ضحاياه كبيرا جدا. والعاقل هو الذي يتعظ ويحتاط من المشاكل قبل الوقوع فيها. ومشروعنا الذي نقترحه، يهدف إلى عدم السقوط في مثل هذه الوضعية المذمومة، وذلك خدمة لبلادنا ولمصالحها وحبا لأبناء وطننا، ومن أجل أن تذكرنا الأجيال اللاحقة بالخير ويسجل التاريخ وحدة الشعب التونسي ورقيه.
2 ـ قناعة راسخة ومسار نضالي طويل
إن مبادرتنا هذه التي نعرضها على سيادتكم، تندرج ضمن مسارنا النضالي في الدفاع عن حقوق الإنسان وتحقيق مصالح بلادنا والدفاع عنها. فسعينا الدؤوب من أجل إرساء مصالحة وطنية شاملة، لا يعتبر وليد اللحظة أو نتيجة لمزاج ظرفي، بل يمثل قناعة راسخة وثابتة لم تتبدل ولم تتغير على مدار عشرات السنين. لقد سبق وأن نادينا، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن صاحب هذه المبادرة هو السيد عبد العزيز عقوبي، منذ سنة 1993 بمصالحة وطنية شاملة، إثر الاعتقالات المكثفة التي طالت آلاف المناضلين الإسلاميين. هذه المبادرة، وغيرها من المبادرات التي حصلت في هذا الاتجاه، موثقة وليست ادعاء أو من بدع الخيال. كما تدخلنا بشكل حازم وجاد من أجل منع الإعدامات السياسية التي كانت يمكن أن تحصل سنة 1987، إثر المواجهات التي حصلت آنذاك بين الإسلاميين والنظام التونسي، ولقد نجحنا في دفع السلطة السياسية إلى التراجع عن قرارها وحفظ إراقة الدماء في وطننا العزيز.
لقد ناضلنا بشراسة وثبات ضد القمع والدكتاتورية في بلادنا، ولكن كنا دائما حاملين غصن الزيتون كتعبير على إعلاء المصلحة العامة للبلاد. لهذا السبب؛ لم نفرط في أي فرصة من أجل التخفيف من الضغط والاحتقان السياسي، وإطلاق المبادرات للمصالحة بين أبناء وطننا. ففي سنة 2006، قمنا بمبادرة بمساعدة السيد الصحبي العامري، من أجل مصالحة وطنية شاملة تقضي بإطلاق سراح جميع المساجين السياسيين وعودة المغتربين ورد المظالم. لم تحقق هذه المبادرة جميع أهدافها، ولكن نجحت في إطلاق مئات المساجين السياسيين وعودة عشرات المغتربين وتخفيف حالة الاحتقان بالبلاد.
بعد نجاح الثورة في بلادنا مباشرة، رأينا أن المصالحة الوطنية هي زورق النجاة الوحيد أمام شعبنا المناضل الأبي للمرور إلى مرحلة البناء والتشييد، وعدم السقوط في الانتقام وردود الأفعال. لقد أصدرنا البيانات في هذا الاتجاه وتحدثنا عن المصالح الوطنية في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، وقمنا بعديد الاتصالات مع الأطراف الفاعلة والمؤثرة على الساحة السياسية بالشكل الذي سمحت به ظروفنا وإمكانياتنا. صحيح أنه لم يقع تبني هذه الفكرة والمبادرة بشكل علني وصريح، ولكن نقدر أننا نجحنا في غرسها لدى أطراف عدة كمسار ممكن بل مطلوب، من أجل الخروج من المأزق الذي تتخبط فيه بلادنا، والذي يتهددها بمخاطر حقيقية إذا لم يقع التدارك. يتمثل نجاح مسعانا في أننا ساهمنا إلى جانب غيرنا في تحقيق حد أدنى من الاستقرار، وعدم الدخول في متاهات الفوضى الدامية أو الحرب الأهلية، كما حصل في العديد من الدول التي شهدت الثورات نفسها.
إن هذا العرض لعدد من مبادراتنا السابقة لا يهدف إلى المباهاة، لأن كل ما نبتغيه من وراء هذه الجهود هو الحفاظ على استقرار بلادنا سياسيا واجتماعيا والسعي إلى رقيها وتقدمها. وهذه المبادرة السياسية المتمثلة في المصالحة الوطنية الشاملة، التي نتوجه بها إلى سيادتكم، تندرج ضمن صلاحياتكم وبإمكانكم منحها الزخم التي هي في حاجة إليه، من أجل عرضها على شعبنا في استفتاء شعبي عام، ليقع تبنيها كمسار وطني أو رفضها. نحن على قناعة تامة أنها تمثل الطريق الأسلم والحل الأصلح لبلادنا؛ اعتبارا للظروف الصعبة التي تمر بها والمزالق التي يمكن أن تقع فيها، لو واصلت السير على المسار الحالي نفسه الذي هي عليه. لإنجاح هذه المبادرة، لدينا مشروع متكامل لمراحلها كافة، ولدينا علاقة متميزة بالعديد من الأطراف التي يمكنها الدفع نحو إنجاحها.
3 ـ نماذج تاريخية من المصالحة الوطنية
سيقتصر استشهادنا بالتجربتين الرواندية والجنوب أفريقية؛ لنبرز الفوائد التي يمكن أن تحصل نتيجة اعتماد المصالحة الوطنية كمنهج لطي صفحة الماضي والانطلاق نحو المستقبل، متخففين من أثقال وأوزار السنين السابقة. إن استشهادنا بهاتين التجربتين لا يهدف إلى التقليد، بقدر ما يهدف إلى إبراز أهمية ما نسعى إلى تحقيقه من مصالحة وطنية شاملة، وقد تجسد في تجارب سابقة قد أثبتت نجاحها . إنه لو لم تتوفر هذه التجارب التي سبقتنا على نهج المصالحة الوطنية، لكنا أول من بادر بها لإيماننا العميق بأن قدر أبناء الوطن الواحد هو المصالحة والنسيان، والتجاوز لكدمات الماضي ومآسيه، من أجل أهداف سامية وراقية ترتبط بواقع البلاد ومستقبلها. إن الذكاء التونسي قادر على التفاعل الإيجابي مع واقعه، وخلاق لما يمكن أن يحقق مصالح البلاد ولما يمكنه أن يتلاءم مع وضعيتها الصعبة الراهنة. إن هذا الذكاء التونسي شرف لكل أبناء الوطن، لأنه تعبير عن رقي مجتمعي وحضاري.
أ ـ التجربة الرواندية
لقد استمرت الحرب الأهلية في رواندا لمدة أربع سنوات، ولقد حصلت مجازر وحشية مرعبة، خاصة في سنة 1994 حيث وصل عدد الموتى إلى ما يفوق 800 ألف قتيل تقريبا، مع أكثر من مليوني مهاجر ونازح. لقد وقع، في ظروف الحرب، قتل أغلب السياسيين الماسكين بالسلطة، أو سجنهم، ومن بقي اضطر إلى الفرار إلى خارج البلاد. لقد اتسم فرارهم بالدناءة نفسها التي اتصفوا بها عندما كانوا بالسلطة السياسية، فقاموا بنهب ما تبقى من أموال عمومية؛ وذلك بسرقة كل ما يملكه البنك المركزي. هذه، بإيجاز جد شديد، حصيلة الحرب الأهلية التي عاشتها رواندا خلال سنوات قليلة. لقد استطاع هذا البلد الأفريقي أن يتجاوز جراحات الماضي ومآسيه، وأن ينظر إلى المستقبل عبر مصالحة وطنية، استطاع أن يطوي بها صفحة الماضي.
يعدّ هذا البلد، سابقا، من ضمن البلدان الفقيرة التي تعتمد اعتمادا مطلقا على بعض الموارد الفلاحية من مثل الموز والشاي والقهوة وبعض الثروات الطبيعية المحدودة. لقد استطاع بالاعتماد على منوال تنموي مبدع يتماشى مع إمكانيات البلاد وطاقاتها، أن ينهض بالاقتصاد ويحقق نسب نمو عالية تتكون من رقمين تفوق نسبة% 10، في وضع اقتصادي عالمي غير مساعد إطلاقا. ولتحقيق مثل هذه النسب المرتفعة للنمو، أدت الدولة دورا محوريا وأساسيا؛ حيث إن العديد من المشاريع هي التي تسهر على بلورتها وتنفيذها وتسييرها بالتعاون مع الأحزاب السياسية. إن الانخراط الفعلي والميداني لهذه الأحزاب في الأنشطة الاقتصادية، ساعد بشكل كبير على التقليل من عوامل الفساد.
ب ـ تجربة جنوب أفريقيا
إن التمييز العنصري البغيض الذي عاشته دولة جنوب أفريقيا معلوم للجميع، والكل كان يستشهد به للتدليل على حدة وضراوة التمييز الذي يمكن أن يصيب بلدا ما. لقد امتدت فترة التمييز هذه، المعروفة بلفظ ‘‘لابرتايد’’ الذي يعني التفرقة بين الأجناس، على مدى 46 سنة تقريبا (من 1948 إلى 1994 مع العلم أن القوانين الرئيسية المعتمدة للتمييز العنصري، وقع إلغاؤها في شهر جوان 1991). تمثلت نتائج هذا التمييز العنيف في اعتبار أبناء الوطن الأصليين كعبيد لا يرقون إلى درجة المواطنة، ومن ثم لا يحق لهم تقلد مناصب سياسية، أو تحمل مسؤوليات مهمة في البلاد، أو التمتع بأبسط الحقوق، علاوة على امتهان الكرامة. وللمحافظة على امتيازات الأسياد، صاحب هذا السلوك التمييزي غير الإنساني، قمع دموي للمظاهرات والتحركات، مما أدى إلى آلاف القتلى وعشرات الآلاف من المسجونين والمعتقلين.
الشخصية الأبرز للنضال الوطني في جنوب أفريقيا من أجل التحرر من هذا التمييز العنصري الجائر، هو نلسن مانديلا الذي قضى 27 سنة في السجن، ليقع إطلاق سراحه في 11 فيفري 1991. بعد هذه المحنة العصيبة والطويلة، اعتلى هذا الرمز أعلى هرم السلطة السياسية كرئيس للبلاد لعهدة رئاسية واحدة لا ثانية لها. لقد استطاع بحكمته أن يطوي صفحة الماضي، وتبني المصالحة الوطنية الشاملة التي بقيت مثالا يُحتذى به على المستوى العالمي، بالرغم من الجراحات والمآسي التي عاشتها جنوب أفريقيا لعشرات السنين.
إن التجربتين الرواندية والجنوب أفريقية، تعدان من التجارب الرائدة في مجال المصالحة الوطنية الشاملة، التي أسست لأشكال جديدة من التعامل بين المواطنين من ناحية، والتعامل مع الوطن من ناحية ثانية. التطور والتقدم الذي حصل على المستوى الاقتصادي يشجع البلدان التي عاشت ظروفا مشابهة أن تنسج على المنوال نفسه. إن هذه التجارب الرائدة على المستوى الأفريقي تستحق الدراسة والتحليل والتمحيص، للاستفادة منها في مجال المصالحة الوطنية الشاملة، وكذلك من أجل استنباط وبناء منوال تنموي يتماشى مع الوضع التونسي، آخذا بعين الاعتبار إمكانيات البلاد وقدراتها.
إن بلادنا تونس، تزخر بالطاقات والكفاءات ويتمتع أبناؤها بحس وطني راقٍ وأصيل، تستحق واقعا أفضل من الذي تعيش فيه، ويمكن أن يكون مستقبلها واعدا إذا ما تضافرت الجهود لتجاوز جراحات وآلام ومآسي الماضي، وإذا ما صدقت العزائم من أجل بناء غد أفضل لجميع التونسيين، بمختلف مشاربهم وتوجهاتهم السياسية والعقدية والفكرية والفلسفية.
إن العمل على إرساء منظومة قيمة نبيلة وراقية تمثل أرضية مشتركة لجميع التونسيين مهما اختلفت المشارب والانتماءات، من مثل خدمة المصلحة الوطنية، والاهتمام بقيمة العقل والعمل والوقت والمحافظة على الثروات والأملاك العامة، والتآزر بين المواطنين وإقرار السلم الاجتماعي والمساهمة في إرساء دعائم السلام الدولي، يساعد بلادنا بلا أدنى شك على الرقي والتطور وتحسين ظروف الناس على جميع المستويات الاقتصادية والتربوية والثقافية والاجتماعية.
سيدي رئيس الجمهورية قيس سعيد، ها قد توجهنا إليكم بهذه الرسالة التي تحمل مشروعا جادا وصادقا من أجل خدمة بلادنا، ووضعها على المسار الصحيح الذي يمكنها من النهوض والارتقاء والتطور. نحن كلنا أمل أن تجد القبول الحسن لديكم، وأن تعيروها الاهتمام الذي تستحقه، وألا تحرم بلادنا وشعبنا شرف الدخول في التاريخ عبر إنجاز مصالحة وطنية شاملة، تبرز وعي شعبنا ومستوى رقيه العالي ورشد قيادته السياسية. وفي الأخير ولعرض هذه المبادرة في إطار مشروع متكامل، نعبر عن رغبتنا في مقابلتكم لمزيد من النقاش حولها، ولانتهاز فرصة تاريخية لا تعوض للدخول بشعبنا إلى مصاف الشعوب الراقية والمتحضرة، التي تقدر على تحمل آلام وجراحات الماضي من أجل بناء مستقبل أفضل لأبناء الوطن ولأجياله اللاحقة.
دمتم سيدي الرئيس ذخرا للبلاد وخادما لمصالحها ومحافظا على وحدتها ومناعتها.
السيد عبر العزيز عقوبي حقوقي وناشط سياسي
السيد حافظ جويرو، دكتور في علم الاجتماع الحضري.
ليون ـ فرنسا 12 آذار (مارس) 2020