تسعى الأنظمة الشمولية
الاستبدادية عموما إلى غلق الفضاء العام من خلال إشاعة حالة من الخوف والرُّعب
والترهيب، لتفكيك المجتمع وعزلة للتمكن من فرض تقنيات المراقبة والتحكم والسيطرة. وقد
قدمت جائحة "
كورونا" هدية مجانية
للأنظمة الاستبدادية العربية خصوصا،
للتخلص من آثار الموجة الاحتجاجية الثانية للربيع العربي، ذلك أن فرض حالة
الاستثناء وقوانين الطوارئ يمكّن من عزل المجتمع وترهيبة وخلق ذوات مفتتة وطيّعة، وهذا
هو سبب إصرارنا على الانتماء، والحس المجتمعي، والتواصل الإنساني، باعتباره واحدا
من أعظم أفعال الشجاعة، ومقاومة الطغيان، حسب حنة آرندت. فعمليات الترهيب والرعب ليست
وسيلة من أجل غاية، بل هي جوهر الاستبداد نفسه، والهدف السياسيّ الأعلى منها هو
جعل أفراد مجتمع ما في حالة دائمة من الخوف والامتثال للسلطة الواحدة المُطلَقة.
إن الدول الاستبدادية العربية لا توفر سوى مساحة ضيقة
للمساهمة
الديمقراطية أو انتقاد الحكومة وصنع السياسات، وقد استثمرت في جائحة
كورونا للبرهنة على صلاحية الاستبداد وكفاءته في التصدي للوباء، خلافا للديمقراطية
والبيروقراطية الأمريكية والأوروبية التي أظهرت كفاءة متدنية. وقد وجدت
الاستبدادية العربية ضالتها ونموذجها في الاستبداديات الآسيوية، مثل كوريا أو الصين أو
هونغ كونغ أو تايوان أو سنغافورة، حيث الناس هناك أقل ممانعة وأكثر امتثالا من
أوروبا.
تبدو جائحة كورونا هدية
للأنظمة الاستبدادية العربية لإعلان حالة الحرب لخنق المعارضة والانقضاض على
مؤسسات المجتمع المدني، وقمع الحريات. فبمجرّد أنّ استُنفدَ الإرهاب كمبرّر لشنّ
تدابير استثنائيّة، فإنّ اختراع وباء قد يوفّر الذريعة المُثلى لتوسيع نطاق هذه التدابير
التي تتجاوز كلّ الحدود، حسب الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين. والعامل الثاني،
الذي لا يقلّ إقلاقا، هو حالة الخوف، تلك الحالة التي انتشرت في السنوات الأخيرة
داخل الوعي الفرديّ والتي تترجم إلى حاجة طبيعيّة لحالات الفزع الجماعيّ التي
يقدّم الوباءُ لها ذريعة مثاليّة مرة أخرى. وبالتالي، وفي داخل حلقة مفرغة حمقاء،
يتمّ القبول بتقييد الحريّة المفروض من قبل الحكومات تحت اسم الرغبة في السلامة؛
تلك الرغبة التي خُلقت أوّل الأمر على يد الحكومات نفسها التي تتدخّل الآن لإرضاء
هذه الرغبة.
إذا كانت عمليات العزل
الصحي ضرورية لمواجهة جائحة كورونا، فإن العزلة التي تفرضها الأنظمة الاستبدادية
تتجاوز الحفاظ على
الصحة وتدخل في نطاق السيطرة على الشعب وتفكيك المجتمع عبر
مداخل الإرهاب. وقد وصفت حنة آرندت في كتابها "أسس التوتاليتارية"؛ الشمولية
بأنها "الأرضية المشتركة للإرهاب"، واستكشفت وظيفتها باعتبارها السلاح
الأساسي، والضرر الأساسي الناتج عن الأنظمة السياسية القمعية. فكما أنَّ الإرهاب،
حتى في مرحلة ما قبل استفحاله إلى شمولية، أي في صورته الاستبدادية فحسب، يدمر كل
العلاقات بين الناس، فإنَّ الإكراه الذاتي على التفكير الأيديولوجي يفسد كل العلاقات
بين الناس والواقع.
ينجح
الإعداد للشمولية
عندما يفقد الناس التواصل مع بعضهم البعض، بنفس القدر الذي يفقدون فيه التواصل مع
الواقع من حولهم. ذلك أنه بفقدان هذين، يفقد الناس القدرة على التجربة، والفكر معا.
ومع أنَّ العزلة ليست بالضرورة نفس الشعور بالوحدة، إلا أنَّ آرنت تلاحظ أنَّ
الوحدة قد تكون هي الممهدة للعزلة التي تفرضها الأنظمة الاستبدادية، ونتيجتها
الخطيرة في آن واحد.
إن الحكومات الشمولية
جميعا حسب آرندت، لا يمكنها البقاء دون تدمير المجال العام من الحياة، أي دون
تدمير القدرات السياسية للناس عن طريق عزلهم. لكنَّ الجديد في الهيمنة الشمولية
باعتبارها نمطا للحكم، أنها لا تكتفي بهذا العزل، وإنما تدمر الحياة الخاصة أيضا.
تبني هذه الشمولية نفسها على الشعور بالوحدة، وعلى تجربة عدم الانتماء إلى العالم
مطلقا. وتلك واحدة من أكثر التجارب الإنسانية راديكالية وقنوطا، فحسب آرنت، إنَّ
ما يخلد الأنظمة الاستبدادية هو التلاعب بالناس باستخدام العزلة، وهو الأمر الذي
ينجز بأفضل كفاءة عن طريق السرديات التقسيمية التي تقسم الناس إلى "نحن وهم".
إذ لا يمكن للإرهاب أن يسيطر إلا على ناس منعزلين ضد بعضهم البعض، ومن أجل ذلك،
فإنَّ واحدا من المخاوف الأساسية لكل الحكومات الاستبدادية هو تغيير هذه الحالة من
الانعزال. ربما تكون العزلة بداية الإرهاب، وهي قطعا أخصب أراضيها، وهي دائما نتيجة
هذا الإرهاب. هذه العزلة دائما ما تسبق الحكم الشمولي، وعلامتها المميزة هي العجز،
إذ إنَّ القوة دائما ما تأتي من اجتماع الناس، فالمنعزلون مغلوبون على أمرهم
بالتعريف.
في كتاب حنّة آرنت بعنوان
"إنسانيّة ورُعب" عن عمل النظام الاستبدادي، تشدد على أن نجاح نظام
الاستبداد، يتعلق بمدى قدرته على تطويع الكائنات البشريّة وتدجينها والتعاطي معها
كحيوانات مُعدَّلة. أمّا المُخلصون الوحيدون لهذا النظام فهم الذين ينصاعون كلّيا
لإرادة العنف. لا رأي لهم ولا موقف، يؤدّون وظيفتهم، مهما كان نوعها، بصورة عمياء،
ويتماهون مع دورهم الذي يختزل حياتهم، وهم بذلك جزء من أدوات القهر.
في العالم العربي
المتخم بالاستبداد المزمن تتجلى العزلة بأقبح أشكالها، وتظهر الامتثالية بأوضح
صورها، ذلك أننا لا نواجه خيارَين كما يشير المؤرّخ الصهيوني يوفال هراري الذي
يتحدث في وقت الأزمة هذا، عن كوننا نواجه خيارَين مهمين؛ يقع الأول بين المراقبة
الشمولية وتمكين المواطنين، أما الثاني فيأتي بين العزلة القومية والتضامن العالمي،
حيث يقع العالم العربي تحت وطأة تثبيت خيار أحادي من الاستبدادية. فمِن أجل وقف
الوباء، يصبح جميع السكان أمام خيار الامتثال لمبادئ توجيهية محدّدة. هناك طريقتان
لتحقيق ذلك؛ إحداهما تتّصل بمراقبة الحكومة للناس، ومعاقبة مَن يخالف القواعد. اليوم،
وللمرة الأولى في تاريخ البشرية، تتيح التكنولوجيا مراقبة الجميع طوال الوقت، إذ
يمكن للحكومات، الآن، أن تعتمد أجهزة استشعار وخوارزميات قوية، بدلا مِن أشباح مِن
لحم ودم.
لا شك أن فيروس كورونا
لن يهزم الاستبدادية العربية، كما أن الفيروس لن يهزم الرأسمالية، حسب الفيلسوف الألمانيّ بيونغ تشول هان، فلن تحدث الثورة الفيروسيّة. لا يوجد فيروس قادر على إحداث
ثورة! الفيروس يعزلنا ويميّزنا، فقط، لكنه غير قادرٍ على توليد شعور جماعيّ قوي.
بطريقة ما، كلٌ منّا يهتم ببقائه فقط.
إن التضامن الذي ينبني على حفاظ حذرٍ من المسافات
الآمنة المتبادلة ليس تضامنا يسمح لنا بالحلم بمجتمعٍ مختلف وأكثر سلاما وعدلا. لا
يمكننا ترك الثورة في أيدي الفيروس.. دعونا نأمل مجيء ثورة بشرية بعد الفيروس.
نحن، أقطاب البحث عن العلل والأسباب، يتعين علينا إعادة التفكير بشكل جذريٍ في
الرأسمالية وآثارها، وكذلك حركتنا غير المحدودة والمدمرة، لإنقاذنا، وإنقاذ عالمنا
الجميل. ونحن في العالم العربي نأمل بقدوم ثورة
اجتماعية بعد جائجة كورونا؛ ضد الاستبداد والدكتاتورية المزمنة.
خلاصة القول أن الأنظمة العربية الاستبدادية
تستثمر في فيروس كورونا للانقضاض على السلطة وتثبيت سيطرتها وزيادة كفاءتها. فالإجراءات
التي في ظاهرها اتخذت لحماية الصحة العامة، هي في جوهرها استيلاء على السلطة غير
مسبوق بما في ذلك أوقات الحرب، وقد بات الحديث عن النموذج الصيني الشمولي في
الحكم، واسع الانتشار، حيث باتت قيم الديمقراطية والليبرالية والحريات الفردية في
مقدمة ضحايا فيروس كورونا في العالم العربي، والعزلة أحد كوارث الأوبئة والأنظمة
الشمولية الاستبدادية، وهذا هو سبب إصرارنا على الانتماء، والحس المجتمعي،
والتواصل الإنساني، باعتباره واحدا من أعظم أفعال الشجاعة، ومقاومة الطغيان، حسب
حنة آرندت.