على مدار 75 عاما، في كل نيسان/ أبريل نتذكر مجزرة "دير ياسين"، وعصابتي "أرغون وشتيرن" اللتين أصبحتا عماد جيش الاحتلال الصهيوني مع عصابات تسيحي والبلماخ والهاجاناه، ارتبطت كل عصابة مع مجزرة شهيرة في العديد من البلدات والقرى
الفلسطينية لتحقيق أمر التطهير العرقي للسكان الأصليين عام 1948.
وكان لمجزرة دير ياسين صدى مختلف، لا لوحشية وقائعها فقط مع أن كثيرا من
المجازر التي اقترفتها العصابات الصهيونية لا تقل وحشية، ولا في عدد الضحايا ولا في تشابه الحدث المؤسس، إنما لعملية التهجير الواسعة وللأثر الذي بلغته في مجتمع السكان الأصليين بما سُمي
النكبة القائمة على مجازر وتهجير وضرب للمجتمع الفلسطيني. إذ كانت المجازر صدى الصهيونية "الطبيعي" الذي جرى تشجيعه من الانتداب البريطاني آنذاك.
البحوث والدراسات والشهادات الموثقة للمجازر الصهيونية، أخذت المدى الواسع خصوصا بعد مطاردة المنكوبين فوق أرضهم وشتاتهم بمجازر مماثلة ومتلاحقة، من لبنان تل الزعتر وعين الرمانة، وصبرا وشاتيلا وحرب المخيمات، وقانا والحرم الإبراهيمي، إلى مجازر غزة في السبت الأسود، ومسجد إبراهيم المقادمة، وعائلة السموني ومدرسة الفاخورة التابعة للأونروا، وقصف منزل نزار ريان وعز الدين أبو العيش.. هذه المجازر مجتمعة ومنفردة تشكل السجل الأضخم لإدانة العقلية الصهيونية وسلوكها البربري في ارتكاب جرائم الإبادة والتطهير العرقي.
دائما تنشد الأنظار إلى المجازر الكبرى، ويتناسى العالم مجازر يومية، ويتجاهل عن قصد منذ تسعة أعوام مذبحة مستمرة بحق السوريين وأشقائهم الذين نجوا من مجازر العصابات الصهيونية، وكانوا ضحية مجازر السارين والخردل والكلور والسلاح الكيماوي والبراميل والصواريخ المتفجرة. فثمة سجل لمجازر الأسد وعصاباته وحلفائه لا يقل بشاعة عما اقترفته شتيرن والبلماخ والهاجاناه، سجل طافح بالتنكر والتهرب من المسؤولية رغم الشهادات والوثائق التي كانت أكثر وضوحا وحضورا من تلك التي سجلها المنكوبون منذ أكثر من سبعة عقود، بعضها وثق بالصورة والصوت وبالأوامر الواضحة. والابتهاج بالمذابح "ببقلاوة " وطقوس تشبه الطقوس التلمودية، يندرج في إطار المآسي التي تعرض لها الفلسطينيون، وهي ذاتها التي يتعرضون لها السوريون أنفسهم.
تثير هذه المجازر مسائل عديدة، بعضها بدهي وبسيط، وبعضها معقد، أو معقد جدا، يرتبط بالتحولات الجارية على مستوى المنطقة والعالم، الذي عجز عن مواجهة جرائم نظام بشار الأسد كما عجز في السابق عن مواجهة مذابح المؤسسة الصهيونية، فكانت النتيجة حصاد مر تجرعه السوريون والفلسطينيون وكل العرب عموما، ويفهم أكثر في عالم اليوم كيف استطاعت العصابات الصهيونية النجاة بمذابحها طيلة العقود الماضية، ونحن نشهد حماية مذابح اليوم من قوى عظمى وقوة إقليمية من موسكو إلى بكين مرورا بطهران وتل أبيب، التي وجدت في من يزاحمها على تنفيذ المجزرة طوق النجاة، وصار لدير ياسين الفلسطينية في اللطامنة السورية، ودوما وحلفايا، وكرم الزيتون، ومجازر المعتقلات والأقبية السورية؛ بيئة موازية لكل اشكال التستر والتمايز التي تفاخر بها عقلية المستبد مع عقلية العصابات.
فمثلما قدم الفلسطينيون طيلة عقود أدلتهم على مسؤولية العصابات الصهيونية عن مذابحهم، يعترف العالم اليوم بمسؤولية النظام السوري عن مذابح الأسلحة الكيماوية، وعن وجود أطنان من الأدلة التي أشهرها السوريون في وجه العالم. ومثلما امتلكت المؤسسة الصهيونية حلفها القوي للدفاع عن جرائمها، يمتلك نظام المذابح في
سوريا حلفا مماثلا من لوبي عربي وروسي وإيراني، للقيام بنفس المهمة ولتحقيق توازن مائع حاط من قيمة البشر، لمصلحة محتل استيطاني وطاغية يخدم مصلحة المحتل ويرسخ وجوده بمجازر مساندة له.
الاستسهال المتكرر لفعل جرائم الحرب والابادة، وتبادل الأدوار في مقلبي الاستبداد والاحتلال، مع التعمية الأخلاقية الممارسة على السوريين مع بعض التأثير، تفرز نقطتين رئيستين يمكن الإشارة إليهما هنا، وهما تغطيان شيئا من التفسير المتعلق بطبيعة الأمور، وتتركزان على دور السوريين والفلسطينيين ضحايا حرب الإبادة أولا، وعلى مسألة التركيز على أوراق القوة ثانيا، وبقدرة فتح ملف المذابح أمام المحافل والمحاكم الدولية، كي لا تبقى ذكراها تنزف حصادها المر وتمنح المجرمين جرأة تكرارها المستمر.