حقق فيروس "
كورونا" ما لم يستطع أن يحققه جبابرة الأرض، من خوف وفزع بين شعوب الكرة الأرضية أجمعين، متخطياً كل الأجناس والأعراق والأديان.. كورونا لا يفرق بين مسلم ومسيحي، ولا بين أبيض وأسود، ولا بين غني وفقير، ولا بين أمير وخفير، الكل عنده سواسية. وعلى الرغم من هذه الحقيقة الساطعة أمام أعين الطغاة، إلا إنهم لم يروا منها إلا خوف الناس فقط، فزادتهم طغياناً وظلماً، وكأنهم كانوا في انتظار هذا الظرف كي يُثخنوا في الأرض ويثبتوا أقدامهم عليها أكثر، ويرجعوا الناس لحظيرة الخوف ويغلقوا عليهم بأقفال يمسكون مفاتيحها!!
نعم، استغل الحكام الطغاه حالة الفزع والهلع التي انتابت شعوب العالم، في صناعة خوف من نوع آخر لدى شعوبهم، كأنهم لم يكفهم ما صنعته عصاهم وهراويهم ورصاصهم لتأديب شعوبهم واستعبادهم على مدار السنين، فجاء "كورونا" ليزيدهم بطشاً واستبداداً. وكان سلاح الإعلام الجبار أقوى أسلحتهم في صناعة الخوف، بالإضافة إلى وسائل التواصل الاجتماعي، الممتلئة بملايين الصفحات المخابراتية التي تخدم صناعتهم التي أنتجت بأعلى حرفية وجودة؛ ما جعل الجماهير تُقبل عليها بشدة دون تفكير، وجعلها تلزم بيوتها طوعاً وليس كرهاً!
وبصرف النظر عن أن المكوث في البيوت وعدم النزول إلى الشارع وعدم الاختلاط من شروط الوقاية من "كورونا"، وهو ما أوصت به منظمة الصحة العالمية، إلا أن هذا الحال باطنه فيه الرحمة وظاهره من قِبله العذاب، لدى الحكام الطغاة الذين استثمروه وسوف يستعملونه بعد انتهاء "كورونا" كسلاح على شعوبهم المستضعفة، فتتحول لمزيد من القهر؛ ويتعود المواطن العادى على تلك الحياة المملة البعيدة عن الشارع ومجرياته، ويتغير شكل ونمط الحياة التي تتحول إلى شبه معسكرات أو كانتونات صغيرة. الكل في حالهم ولا يهتمون بما يحدث في البلاد وما يفعله الحكام، ولا يعنيهم شأن الآخرين، ونفقد روح الجماعة والألفة والتضامن، ويصبح المواطن أسيراً في منزله أو كما يقولون في الأمثال "قافل عليه بابه وكافي خيره شره"!
الطغاة يخشون الشارع، فهو الهاجس الوحيد الذي يخيفهم، يخشون ثورة الشعوب ضدهم رغم ما أعدوا لها من عدة وعتاد تحسُبا لهذا اليوم الذي يرعبهم أكثر من "كورونا"، بل إن "كورونا" كفكرة وتدبر (وليس كمرض)، لم يؤثر في هؤلاء الطغاة ولم يحركهم قيد أنملة، ولم يثنهم أو يردعهم عن ظلمهم، ولم يفروا إلى الله ويتعظوا ويعودوا إلى صوابهم، بل حدث العكس تماماً، هربوا من ضعفهم أمام "كورونا" ليستقووا على شعوبهم، فازدادوا طغياناً وظلماً لشعوبهم، ولم يفرجوا عن المعتقلين ظلماً وعدواناً بل تمادوا في اعتقال الأبرياء وزجهم في سجون غير آدمية، وصموا آذانهم عن مطالبات المنظمات الحقوقية الدولية لهم بالإفراج عن المعتقلين تحت ذريعة معركة "كورونا"، ولا صوت يعلو فوق صوت كورونا، و"كورونا" منهم براء!
الخوف هو أفضل وسيلة تستغلها الحكومات لتمرير قوانينها، حتى في الدول الغربية التي نحسبها قلعة الديمقراطية وكعبة الحريات؛ سنّت بعض حكوماتها قوانين استثائية ديكتاتورية بذريعة التصدي لجائحة "كورونا" دون أن يعترض أحد، فالشعوب لا تفكر حاليا إلا بأمنها الخاص ضد "كورونا"، ولا يعنيها أمن البلاد القومي (كما يحلو للبعض تسميته). وبموجب هذه التشريعات الجديدة؛ يصبح لجهازي الشرطة والجيش صلاحية استثنائية في اعتقال أي شخص لا ينفذ الحجر الصحي، دون العودة للقضاء، بذريعة مواجهة
الأوبئة!!
والسؤال الآن، هل سيتم إلغاء هذه القوانين الكورونية، بعد انتهاء أزمة "كورونا"؟ أم سيتم تمديدها لاحقاً بحجة أن الوباء يمكن أن يعود مرة أخرى، كما حدث في أمريكا بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، والقوانين التي سنتها بحجة الإرهاب، والتي سمحت للاستخبارات الأمريكية بالتجسس على المواطنين الأمريكيين، والتي انتهت مدة صلاحيتها ولكنها مستمرة حتى اليوم ولم يتنبه أحد لذلك، فالأمريكان مشغولون بكورونا؟!!
الآن أصبح لدى العالم ما هو أخطر لتقييد الحريات والتجسس بواسطة آخر اختراعات التكنولوجيا، مثل الجيل الخامس (الفايف جي) من الاتصالات اللاسلكية وقدرته على مراقبة سكان الأرض بطريقة غير مسبوقة، إذ باستخدامه تستطيع الحكومات أن تضع أي إنسان في هذا الكوكب تحت المراقبة وكل شيء سيصبح مبرمجا، وهذا ما فعلته الصين في مراقبة حركة الشعب وظبطه بالتكنولوجيا الحديثة وخاصة في أزمة كورورنا..
هذا ما أقلق العديد من الكتاب والنشطاء الغربيين على الحريات في بلادهم، وأبدوا تخوفهم من أن تصبح دولهم مثل الصين، وخاصة أن التقنيات الحديثة ستجعل الحكومات أكثر قدرة وتحكما في مراقبة الناس بطريقة لم يسبق لها مثيل في التاريخ،
والأخطر في تقنية "الفايف جي" أن العالم سيكون مراقباً بمليارات الكاميرات في كل مكان؛ وهذه الكاميرات لديها قدرة هائلة على التعرف على كل الوجوه في أرجاء الكرة الأرضية!
فإذا كان الغرب خائفاً من أن تستغل حكوماتهم الديمقراطية فيروس "كورونا" سلاحاً ضد حرياته وقيمه، فما بال تلك الشعوب المستضعفة التي تعيش تحت طائلة حكومات ديكتاتورية من الأساس؟ وكيف سيكون حال بلادنا العربية مع حكوماتها الفاشية التي من المؤكد ستتخذه سيفاً مسلطاً علينا؟!
حظيرة الخوف هذه هي أسوأ ما خلفه "كورونا" وأعظم ما ربحه أو جناه الطغاة، حتى أنهم لا يريدون له أن يرحل، بل لو لم يجدوا "كورونا" في الأرض لاخترعوه..
وإذا كان "الخوف" أحد مساوئ "كورونا" فإن له وجوها أخرى حسنة؛ إذ كان سبباً في أن يكتشف الإنسان مدى ضعفه وهشاشته، وأنه مهما بلغ من القوة والعلم فهما مستمدين من قوة الله سبحانه وتعالى ذي القوة المتين. إذ إن فيروسا ضئيلا لا يُرى بالعين المجردة استطاع أن يغزو كبريات الدول التي تمتلك أضحم ترسانات أسلحة وقنابل ذرية، ومع ذلك لم تستطع أن تهزمه..
ومن محاسنه أيضا؛ أنه أسقط الأقنعة وعرّى وجوها كثيرة قبيحة، فمثلاً كشف عورة العلمانيين العرب وكرههم وحقدهم على الإسلام. ففي الوقت الذي وقف فيه "ترامب"، رئيس أكبر وأقوى دولة في العالم، عاجزاً أمام "كورونا"، وهو الذي يملك أكبر ترسانة أسلحة في العالم لم تسعفه في القضاء عليه، فلم يجد مفراً ولا مخرجاً غير اللجوء إلى الله فتضرع إليه، طلباً للنجاة ودعا الأمريكان إلى الصلاة من أجل أن يصرفه عنهم ويحفظ الأمة الأمريكية، وهو رئيس دولة علمانية، كما أن رئيس الوزراء الإيطالي صرّح بأن حلول الأرض وصلت إلى مرحلة العجز وينبغى تحويل الأمر إلى السماء.. نجد العلمانيين العرب يبتلعون ألسنتهم ولم ينبسوا ببنت شفة ضد هذا السوك، بينما تنطلق ألسنتهم بسيل من السباب والتندر على من يفعل أو يقول ذلك من المسلمين، موجهين لهم التهم بالتخلف والجهل وأنهم ينتظرون من الكفار العلاج، ويتحدثون بسعادة عامرة عن إغلاق المساجد، بينما يغضون الطرف عن بعض الدول الأوربية، كألمانيا وإسبانيا وإيطاليا التي سمحت بأن تصدح المساجد بالأذان عبر مكبرات الصوت، وما إلى ذلك من روحانيات!!
جاء فيروس "كورونا" ليعري الرأسمالية المتوحشة، ويظهر رجال الأعمال بصورتهم الحقيقية التي حاولوا كثيراً أن يجملوها بمكياج زائف، أزاله "كورونا" وأظهر حقيقتهم الكريهة، وأنهم طبقة لا يعنيهم غير ملء خزائنهم بالمال فقط وأنهم عبيد له.
فقد رأينا في مصر؛ كبار رجال الأعمال الذين يتحنصون في بيوتهم خوفاً من إصابتهم "بالكورونا" يصرخون ويستجيرون من الحظر الجزئي الذي فرضته الحكومة، ويطالبونها بوقفه فوراً حتى لا تتوقف مصانعهم. بل إن الملياردير "نجيب ساويرس" فصل عدداً كبيراً من العمال وخفض أجور باقي العاملين. أما المهندس الملياردير "حسين صبور"، وهو صاحب أكبر شركات مقاولات في مصر، فقال بالحرف الواحد في برنامج تلفزيوني: "مش مشكلة يموت العمال أحسن ما يموت الاقتصاد"!!
مثل هؤلاء رجال الأعمال، مصاصو دماء البسطاء، يطالبون العامل البسيط بأن يضحي بدمه كي يحيا هو وأسرته، لا تهمهم الأرواح ولكن تهمهم الأرباح!!
هؤلاء مثل الحكام الطغاة لم تصلهم أيضا رسالة "كورونا" بعد، ولم يتعظوا واستمروا في جشعهم وأنانيتهم..
إن "كورونا" لنعمة عظيمة من نعم الله سبحانه وتعالى على البشر، شريطة أن نتدبرها ونفهمها..
* * *
يشبه الدكتور "زغلول النجار" ما فعله "كورونا" في العالم بصورة مصغرة لليوم العظيم، يوم القيامة حيث يفر المرء من أخيه ومن أمه وأبيه وصاحبته وبنيه وفصيلته التي تؤويه، فالمصاب بكورونا يتم عزله بعيداً، ويهرب منه الجميع حتى أقرب الناس إليه، يرفضون أن يلقوا عليه النظرة الأخيرة، الكل يريد النجاة بنفسه فقط، وهنا تنطبق عليهم الآية الكريمة "لكل أمرئ منهم يومئذ شأن يغنيه"..
نعم تباعد الناس وتقطعت صلة الأرحام، وقُطعت بينهم أوصال الرحمة والمودة، وأخليت المساجد من المصلين، والكعبة بلا طواف، والشوارع خالية من المارة والمركبات، والحدائق خالية من لهو الأطفال، الكل جاثم في بيته ترهبه عطسة وتفزعه كحة!
في مشهد يوم القيامة الصغيرة، "كورونا" أفرغت الأرض من سكانها، بينما يوم الفزع الأكبر، يوم البعث، تزدحم الأرض وتتقارب الصفوف ويقف الجميع صفا أمام رب العالمين.
وهنا يُطرح السؤال: هل اتعظ الناس من تلك القيامة الصغيرة وأعدوا عدتهم واصلحوا ذات بينهم، لاستقبال يوم القيامة الكبرى؟ هل فروا إلى الله، فلا عاصم لهم اليوم إلا هو؟ هل تابوا وأعادوا الحقوق لأصحابها؟!
للأسف لم يفق إلا قليل من البشر، فعلى الرغم من الدعوات التي تملأ الكون، إلا أنهم لم يصلحوا ذات بينهم، ولم يصلحوا ما بينهم وما بين الله، دعوات يطلقها اللسان قبل القلب، في مقابلة الظرف الذي يعيشونه، ولكنهم لم يحاولوا فهم الرسالة وأبعادها، رغم أن "كورونا" قد أعطاهم فرصة للتدبر والتأمل لكنهم فهموه مرضاً، ولم يفهموه داعياً إلى الله والعودة لفطرة الإنسان!!
وعلى الرغم من الدروس الكبرى التي أخلفها "كورونا"، إلا أن هناك الكثيرين لا يزالون في خوضهم يلعبون وكأنهم في انتظار "كورونا" جديد أشد وطأة لتنهاهم عن لهوهم وتردعهم، ولن تكون غير يوم القيامة!
إن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ولكنها تساوي عند الطغاة وكثير من الناس الحياة والآخرة، ويودون لو يعيشون ألف سنة ليمارسوا طغيانهم وظلمهم وسرقتهم للبشر، وهم لا يعلمون أنهم بعد الألف سنة هذه، فلسوف يعودون إلى خالقهم ويشهدون ذلك اليوم العظيم، يوم القيامة الحقيقي الذي يهربون اليوم من مشهده المُصغر الذي صنعه "كورونا"!!