هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الاستثمار الثقافي الرقمي يشترط هذه "المؤامرة" الثلاثية بعد الوباء "إلغاءات سفر إلى مهرجانات"... "اعتذارات من فنانين"... "تعذر حضور مخرجين وإلغاء عروض": جمل تتكرر من تظاهرة ثقافية إلى أخرى من مهرجان إلى آخر ومهما كان حجمه أو صيته والسبب واحد: عدم تمكن صاحب العمل من الحصول على التأشيرة.
فالتأشيرة بين الدول العربية ترسم غالبا حدودا للممارسة الفكرية والثقافية والفنية حين يتعلق الأمر بمواكبة الفعاليات الثقافية والتواجد فيها من أجل هذا التلاقي الإبداعي وما ينجر عنه من تطوير مستقبلي للأعمال الإبداعية والدخول في شراكات عربية وغيرها من الآفاق المحتمل اختراقها. ولكن العمل الثقافي الرقمي خلال فترة الحجر الصحي قلب كل الموازين وجعل من التأشيرة هاجسا "مفتعلا"، فكيف يتحول الاستثناء إلى عادة؟
إن وضع الأعمال الفنية من مسرحيات وأفلام ورسومات ولوحات رقص على مواقع التواصل الاجتماعي، مبادرات كسرت مع المنظومة التقليدية لنشر أي عمل فني وإخراجه من حدود الجغرافيا وحدود متطلبات التسويق عبر وسائل الاتصال التقليدية. مبادرات انتصرت على اللغة والجنسية والانتماءات الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
وأنت متواجد في تونس، مثلا، صار مسموحا لك أن تشاهد عملا فنيا جديدا في مصر (مسرحية أو فيلما) وقبل نزوله للقاعات دون الحاجة إلى التأشيرة، وصار مسموحا للمبدع لقاء جمهور خارج جمهوره المألوف دون الحاجة إلى إمكانات تسويقية أحيانا تعجزه وتحكم عليه بالمحلية.
لقد فتحت كل المنصات الافتراضية على بعضها البعض، وكأنها تسقط جدرانها وتفتح الحدود لتعيد ترتيب قواعد تنظيمية لهذا العالم المفر وقت "اللجوء" الصحي زمن الوباء. فمجموعات تلتقي حول نقاشات ثرية حول أعمال فنية جديدة وقديمة، صفحات تستقطب الكثير من المتابعين و "توقعهم" في ورطة فنية جميلة، حالة من الغليان الفكري، تفاعلات ولقاءات مؤثرة، ويكفي إلقاء نظرة على التعليقات على المنشور الواحد حتى ندرك قيمة العمل الثقافي التفاعلي والمؤثر.
ولنا من التعليقات شهادات على التأثير في السلوك اليومي للمستهلك الثقافي: فهذا لم يفتح طيلة حياته الماضية كتابا واحدا واليوم صار مقبلا على المطالعة، وذاك لم يكن متابعا للمسرح ويجده اهدارا للطاقات واليوم صار متابعا وفيا يضع ضمن برنامجه اليومي مشاهدة أكثر من عمل مسرحي كقاعدة ليومي "صحي"، والاخر كان يرى في أي عمل ثقافي مضيعة للوقت على حساب أعمال اخرى مربحة ماليا واليوم يراه بوابة جديدة للاستثمار. وأولئك الذين اجتمعوا سابقا حول سطحية الأعمال الفنية الحالية وترديها مقارنة بالزمن الجميل فقد عدلوا موقفهم، واخرين طوروا من ذائقتهم الفنية.
نعم وأنت في منزلك في أقصى الشمال قد يأتيك عمل ابداعي من منزل في أقصى الجنوب ولربما أنت من ينقله إلى منزل في أقصى الغرب ومنه الى منزل أقصى الشرق، لا عزلة وفي دقيقة واحد قد يحصل غزو ثقافي لآلاف المنازل.
جميل اللقاء بالفنون وجميل كسر حدود الجغرافيا والتمرد على التأشيرة. ولكن الحجر الصحي كشف الجانب الأساسي من المعركة الافتراضية وهو أن علاقتنا عربيا بوسائل الاتصال الحديثة هي علاقة سطحية لا تتعدى حد النشر ضمن صفحات أو مدونات أو مواقع الكترونية والمشاهدة والتعليق دون أن يكون لذلك أي مردود مادي باستثناء بعض التجارب الجادة في الاستثمار الرقمي وهي قليلة جدا. فأعمال فنية جديدة تعرض مقابل صفر مليم وكتب توضع على المكتبات الالكترونية وكأن صاحبها يهديها من تلقاء نفسه "لقمة" سهلة للقرصنة.
كان يمكن لفترة الحجر الصحي أن تفتح مجالات استثمارية أكبر للمبدع العربي في العالم الافتراضي. ولكن هذا لو كان العمل الجاد على منظومة الاستثمار الرقمي خارج الأزمة الصحية الحالية لأن التحرك وسط الأزمة يقلل دائما من أهمية النتيجة.
وربما لهذا السبب نجد المشرفين ومديري التظاهرات والمهرجانات يستعجلون تأجيلها أو إلغائها ويرونها الحل الأكثر نجاعة في حين أن الدرس يأتينا من أول مهرجان سينما عربي رقمي ومن محافظة تونسية تبعد عن العاصمة وهي مدينة قابس. فقد اختار فريقها المسير من الشباب تنظيم نسخة رقمية من المهرجان في دورته الثانية عوض تأجيله مع المحافظة على كل عروضه السينمائية من تونس ومصر وفلسطين ولبنان والجزائر وغيرها من الدول.
كما أشرفت لجنة التحكيم على عملها بدقة شديدة وحرصت على إتمام مهمتها بإعلان الفائزين في المسابقات الرسمية من الأفلام الطويلة والقصيرة من الثالث من شهر أبريل 2020 إلى الحادي عشر منه. كما تواصلت إمكانية فتح روابط الأفلام على المنصات الافتراضية لعدة ساعات لفسح المجال لأكثر عدد من الجماهير للمتابعة وهو ما لا يتحقق غالبا في عروض المسابقات في الدورات التقليدية والذي يظل مرتبطا بتوقيت وقاعة عرض لا تتسع إلا لعدد محدد من المتابعين. فماذا لو كانت غالبية المهرجانات مستعدة لمخطط بديل للمخطط التقليدي وضمان تواصله رقميا.
ربما ينتهي الحجر الصحي بعد أسبوع، أسبوعين، ثلاث، وربما تتغير ممارسات المواطن العربي على مواقع التواصل الاجتماعي وتتغير تقاليده في التعامل مع الفنون والثقافة رقميا. وربما تكسب فضاءات العروض التقليدية من قاعات سينما ومسرح جمهورا جديدا. وربما تغادر الجماهير العالم الافتراضي تعطشا إلى الحياة اليومية بتفاصيلها التقليدية بما أن تعامل جزء من هذه الجماهير مع الفضاء الرقمي كتعامل "لاجئ".
وربما هي فقط علاقة "نزوة" بنيت على انبهار اللقاء الأول في لحظة خوف من الموت والعزلة. وحتى تدحض هذه الفرضيات لا بد من مؤامرة من قبل هؤلاء: صاحب السلطة والمبدع والمشرع. لا بد من صياغة نص "مؤامرة" على الجمهور لقلب الموازين الثقافية وكسب رهانات جديدة حتى يتم تحويل ما جاء في إطار مبادرات فردية غير منظمة إلى مشاريع حقيقية مبنية على أسس تشريعية تنظم العمل على المنصات الافتراضية وتفتح له آفاقا استثمارية.
وتفتح بذلك فرص عمل جديدة يمكنها أن ترتقي بالممارسة الثقافية الرقمية وتحولها الى ممارسة أساسية، هذا من جانب. ومن جانب اخر، هي فرص عمل ستساهم في امتصاص أزمة البطالة لدى الفئة الشابة من الدول النامية وتلهمهم بأفكار مشاريع جديدة.
إن المبادرات الثقافية والفنية والفكرية المثلجة للصدر والتي نراها اليوم على المنصات الرقمية وكنتيجة حتمية للحجر الصحي زمن انتشار الكورونا، تدعونا إلى العمل على كيفية تحويل هذه المبادرات إلى مبادرات ربحية تضمن استقلالية المبدع بعيدا عن صناديق الدعم وتحميه من "فخ" الأزمات.
فانتشار فيروس ليس بمعطى خارق لنظم الطبيعة والصحة وثقب الاوزون ليس حقيقة مستجدة، وتردي الأوضاع البيئية والكوارث ليست خارجة عن نطاق الحياة البشرية والحروب أيضا. وهو ما يتطلب أن يكون الاستراتيجي حاملا لنظرة متعددة الأبعاد ومن زوايا مختلفة panoramique، وفي أي مجال كان ولا بد أن تكون لكل القطاعات استراتيجة للتعامل مع الأزمات موجودة دائما قبل حدوثها.
لقد وضعنا فيروس كورونا أمام مرآة عاكسة لحقيقة المجتمعات التي تعودت على الاستهلاك وعدم التفكير أو الاكتفاء باجترار ما توصل إليه مفكرون لقرون خلت. ربما يكون هذا الفيروس الفرصة لإيجاد فلسفتنا الخاصة حتى تخرجنا من المأزق الفكري والبحثي بعودة مخابرنا لإيجاد تصورات ونظريات جديدة قادرة على تسيير نمط الحياة الجديدة.
تكونت لدى اينشتاين بوادر التفكير في نظرية الجاذبية زمن الوباء لما اغلقت الجامعة وأغلق عليه في منزله مع دراساته وبحوثه.