هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تكتسب مناسبة شهر رمضان المبارك مكانة
عظيمة في قلوب اليمنيين الذين يعيشون شهراً استثنائياً بكل ما تعنيه الكلمة من
معنى. فالحياة تتغير جذرياً في اليمن، والحرب نفسُها لم تستطع أن تُكيِّفَ هذه
المناسبة، فقد بقيت على حالها، والناس اتكأوا على جراحهم لكي يعيشوا رمضان كما
عاشوه وكما رسخ في مخيلتهم، شهراً تتحسنُ به حياتهم إلى حدٍ كبير.
إقامة الشعائر الرمضانية من صلوات
وقيام، هي السمة الغالبة في الشهر الكريم، أما بقية الليل الرمضاني فيتحول إلى
مناسبة لاجتماع العائلات والأصدقاء في ديوانيات عامرة، الحاضر الأكبر فيها هو
"القات"، وهو عشب منبه يمثل السمة المشتركة التي تجمع اليمنيين مع جزء
كبير من سكان إثيوبيا وكينيا والصومال، والمهاجرين من يهود اليمن في فلسطين
المحتلة، والمهاجرين من هذه الدول في بريطانيا والولايات المتحدة وحتى في الصين.
وعلى الرغم من الظرف الاستثنائي الذي
أضافته جائحة كورونا، إلا أن اليمنيين لا يبدو أنهم مستعدون للذهاب في الاحتراز حد
الامتناع عن إقامة الصلوات في المساجد. للأمر خطورته الصحية بالتأكيد في ظل انهيار
المنظومة الصحية في البلاد، لكن لأن الناس لم يلمسوا بعد أثر هذه الجائحة يمضون
قدماً في إقامة شعائرهم كما ألفوها.
يتقاسم اليمنيون مع أقرانهم في الدول
المجاورة وبقية الدول العربية سنة إحياء الليل، لكن المساجد في اليمن لها نصيبٌ
كبير من اجتماع الناس واهتمامهم وتعلقهم. الأمر لا يتوقف على الرجال بل على النساء
اللائي يحضرن بكثافة في صلوات التراويح والتهجد، لأن معظم الناس لم يصبهم ترف
العيش ولم تلههم أموالهم، فضيق ذات اليد يجعل من المساجد بالنسبة للغالبية العظمى
متنفساً وسعةً روحية.
منذ انقلاب 21 أيلول/ سبتمبر 2014، بدأ شهر
رمضان يتحول إلى مناسبة مليئة بالتحديات المعيشية وحتى الروحية، لا تحتملها
الأوضاع المتردية للناس على كافة المستويات، فلا مرتبات ولا دورة اقتصادية طبيعية
يمكن أن تتولد معها الفرص والوظائف، في وقت يسود فيه اقتصاد الحرب في المناطق التي يحكم الانقلابيون سيطرتهم عليها، وهي المناطق التي يتركز فيها معظم سكان البلاد.
في إطار هذا النوع من اقتصاد الحرب،
برزت ظواهر شاذة وغريبة، تركزت معها الثروة في أيدي زعماء الحرب والمشرفين والقادة
السياسيين المرتبطين بجماعة الحوثي، وذلك لأن الاقتصاد تم تجييره بالكامل لخدمة
هذه الفئة دون غيرها، فيما بقي معظم الناس دون مداخيل تحقق لهم الحد الأدنى من
متطلبات العيش الكريم.
لا يمكن تجاوز الأثر المعيشي الذي يتسبب
في تعميق مأساة اليمنيين في أفضل الشهور لديهم وأكثرها تأثيراً في حياتهم، خصوصاً
في المدن وفي مقدمتها مدينة صنعاء، إذ يختلف الأمر قليلاً في المناطق الريفية التي
تشهد تغييرات كبيرة في الدورة المناخية ما تسبب في هطول أمطار غزيرة أعادت المياه
إلى مجاريها، كما يقال، وأُغيث الناس، بل وتحولت إلى فيضانات كبيرة وخطيرة، في حين
تساهم المساعدات التي تقدمها المنظمات الدولية في تأمين الحد المطلوب من الاستقرار
المعيشي الذي يحتاجه سكان الريف الذين تبقى متطلباتهم المعيشية متواضعة قياساً
بسكان المدن.
من المؤسف أن المناطق التي يسيطر عليها
الحوثيون تعاني منذ منتصف شهر نيسان/ أبريل الجاري من تراجع في الإمدادات
الإغاثية، بسبب الإجراءات التي اتخذتها دول مثل الولايات المتحدة ومنظمات تابعة
للأمم المتحدة، جراء التجاوزات التي ترتكبها مليشيا الحوثي، وساهمت في تجيير معظم
المساعدات لصالح المجهود الحربي، حتى أن مساعدات برنامج الأغذية العالمي تذهب بشكل
مباشر إلى الجبهات لتأمين احتياجات مقاتلي المليشيا واستدامة حربهم على اليمنيين.
لذا من المرجح أن يعاني السكان من الآن
فصاعداً من الناحية الاقتصادية والمعيشية، جراء التراجع الخطير في الإمدادات
الإغاثية، على أمل أن تسهم الأمطار في زيادة الإنتاجية الزراعية التي قد تغطي
بدورها احتياجات جانب من سكان البلاد، خصوصاً في المناطق الريفية.
في صنعاء ثمة أشياء أخرى تنغص حياة معظم
سكان المدينة وتتصل بالجانب الروحي تحديداً. فالحوثيون يسابقون الزمن من أجل وسم
المدينة بطابعهم العقائدي الذي لا يتماشى مع الطابع السائد من التدين السني في هذه
المدينة.
فالغالبية العظمى من المساجد منابرها
سنية، وحلقاتها الدينية وشعائرها، وصلاة التراويح اجتذبت إليها خلال العقود الستة الماضية الغالبية العظمى من سكان العاصمة صنعاء. والأمر يعود إلى حجم الهجرة التي
دفعت بمئات الآلاف من السكان للاستقرار في مدينة صنعاء، حيث تتركز معظم الفرص
وخصوصاً الوظائف.
وإضافة إلى ذلك بدأ سكان المدينة الأصليون
بتجاوز ما تقضي به تعليمات المذهب الزيدي الذي لا يميل إلى ملازمة المساجد وإلى
تعلق الناس بالعبادات أكثر مما ينبغي، وهو لا يقر صلاة التراويح ويعتبرها سنة
أحياها الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والذي يتبنى رؤوس هذا المذهب موقفاً
سيئاً منه، لذلك يرون أنهم معنيون بإنهاء هذه الشعائر من العاصمة صنعاء ومن كل
المساجد في المناطق التي كانت تلتزم ذات المذهب قبل العام 1962.
ترى عائلة عبد الملك الحوثي قائد جماعة
الحوثي، وتؤازرها عائلاتٌ عديدة من أبناء عمومتها، أن جزءاً من معركة السيطرة على
اليمن ينبغي أن ينصرف إلى تغيير عادات الناس وعباداتهم وجعلها أكثر ارتباطا
بعقيدتهم؛ التي تتمحور حول حق فئة من الناس بعينها في السيادة وامتلاك زمام الدولة
والتصرف بشؤونها، باعتبار ذلك حقا إلهيا لا تُنازَعُ عليهِ (العائلات) من أي أحد.
حتى اللحظة، تحاول هذه العائلات وبعد أن
نجحت في تجييش القبائل بالقوة، صرف الأنظار عن الاتجاه النهائي لحركتها المسلحة
المعروفة باسم "أنصار الله"، والتي تستهدف إنهاء النظام الجمهوري واستعادة
الإمامة، وتكتفي بالتأكيد على أنها تعمل على تغيير الوقائع السياسية تحت مظلة
الجمهورية، فيما الحقيقة أنهم يعملون كل ما بوسعهم لتقويض الجمهورية، ومعها ثقافة
المجتمع وعاداتها وممارساتها العقائدية، وتندرج في إطارها الشعائر الدينية التي لا
يقرونها، لاعتقادهم بأن عودة الالتزام بالمذهب الزيدي يمهد الطريق لعودة المبدأ
الأهم فيه وهو الإمامة.
وعودة كهذه ليست محمودة لدى اليمنيين
الذين عانوا من النظام الإمامي الكهنوتي لأكثر من ثلاثة عقود، عندما حكم الإمام الزيدي
يحيى حميد الدين ومن بعده ابنه أحمد وحفيده محمد؛ المملكة المتوكلية اليمنية، في شمال
اليمن، بعد خروج العثمانيين، فأبقوا البلاد في ظل حكمهم متخلفة ترزح تحت وطأت
الجهل والظلام والفقر والمرض، إلى حد استحقت معه أن تسمى بـ"بلاد واق
الواق"، بالنظر إلى عزلتها شبه التامة عن العالم معظم النصف الأول من القرن
العشرين.
كل
عام وأنتم بخير