أيار/ مايو.. فيه ولد عام 1892، وفيه مات عام 1980.
فشل في اجتياز الصف الرابع من المرحلة الابتدائية،
عمل صانعا للأقفال، ثم حكم اتحاد جمهوريات يوغوسلافيا، ومنح نفسه رتبة مشير على
مدى سبعة وعشرين عاما.
تفككُ الاتحاد واستقلال الجمهوريات مطلع التسعينيات
من القرن الماضي؛ لم يمنع بعض سكانه من القسم بحياة يوسيب بروز
تيتو حتى اليوم. فإذا
كذبت أو أنكرت حديث أحدهم بغض النظر عن قوميته أو دينه، فإنه يرد عليك "تيتو
مي" (أي وحياة تيتو).
هل كان ذلك نتيجة آلة الدعاية التي ظلت تدور في
أدمغتهم على مدى ما يقرب من ثلاثة عقود؟ هل كان ذلك حبا أو خوفا؟ لا إجابة محددة،
فبعض اليوغوسلاف يفاخر بأن تيتو كان ديكتاتورا لكن الشعب لم يكن محروما.
لقد اشتهر تيتو بالفساد والبذخ، واستغل المقربون منه
ذلك فأغدقوا عليه بالهدايا الثمينة، فكانت لهم ولقادة الحزب الوحيد الحاكم
الأولوية في كل المزايا.
قصة مكررة لكل ديكتاتور يعرفها الجميع، لكن القصة
التي لا مثيل لها ولا يعرفها إلا القليل تكمن في ما كشفته وثيقة للمخابرات
اليوغوسلافية، عن
البرنامج الفضائي الذي طلب تيتو إعداده والتكتم عليه.
في خمسينيات القرن الماضي احتدم السباق بين الولايات
المتحدة والاتحاد السوفييتي للوصول إلى القمر بعد أن سجلت موسكو السبق بإطلاق
سبوتنيك، أول قمر صناعي عام 1957.
أبلغت المخابرات الأمريكية الرئيس جون كينيدي عام
1960 بأن يوغوسلافيا تملك برنامجا فضائيا، لكنها لا تملك التمويل الكافي.. يُرسل
كينيدي الدبلوماسيين وخبراء ناسا إلى بلغراد لاستيضاح الأمر.
في العام التالي، يتفق الرئيسان الأمريكي جون كينيدي
واليوغوسلافي تيتو على بيع بلغراد برنامجها الفضائي لواشنطن مقابل مليارين ونصف
مليار دولار (ما يعادل نحو خمسين مليار دولار حاليا).
وصل البرنامج اليوغوسلافي إلى الزبون الأمريكي، ولم تكن
هناك سوى مشكلة واحدة هي أنه برنامج متأخر جدا، ولا طائل من تنفيذه.
عام 1963 زار تيتو نيويورك، وفي الشارع قوبل بمظاهرة
رافضة لزيارة رئيس شيوعي، وخلف الأبواب المغلقة طلب منه كينيدي برنامجا حقيقيا أو
إعادة الأموال. بما أن الأموال قد صُرفت، فقد اختار تيتو الحل الأول.
اغتيل كينيدي بعد هذه الزيارة بشهر، لكن خلفه ليندون
جونسون لم ينس الموضوع، فاستأنف الضغط على تيتو الذي لم يجد بدا من إصدار أمر إلى
26 من مهندسي الفضاء اليوغوسلاف بالتجمع في أكبر قاعدة جوية عسكرية شمال غرب
البوسنة من أجل الرحيل إلى الولايات المتحدة، دون إخطار عائلاتهم بوجهتهم.
ثم أخبرت السلطات عائلات المهندسين بوفاتهم جميعا
إثر سقوط طائرة، وقيل إن الجثث اختفت، حسب شهادة واحد من المهندسين الستة والعشرين
الذين أجبرتهم الولايات المتحدة عند وصولهم على تغيير هويتهم. لم يعرف سبب ذلك،
لكنهم نجوا من نظام تيتو واندمجوا في ناسا وشارك بعضهم في مهمة أبولو، بل وفي هبوط
الأمريكيين على القمر عام 1969.
ظل تيتو في مأزق، فقد حولت واشنطن مبلغ البرنامج
الفضائي العتيق إلى ديْن على يوغوسلافيا، وفشل تيتو في تهديد أمريكا بأنه سيكشف
أمرها لروسيا بشراء برنامجه الفضائي. لكن واشنطن لم تبال بذلك، وقيل إنها هددت
بتدخل عسكري إذا لم يرد تيتو الدولارات.
لم يجد تيتو حينها إلا أن يعرض تصدير سيارة "يوغو"
التي تصنعها بلده إلى الولايات المتحدة مقابل سداد الديْن.
وصف الأمريكان هذه السيارة، حسب وسائل إعلام أمريكية،
بأنها كانت أسوأ سيارة مستوردة في أمريكا، والنتيجة تصاعد التوتر بين البلدين إلى
أن مات تيتو.
يستنبط فيلم وثائقي للمخرج السلوفيني جيغا فيرتس
بعنوان "Houston, we have a problem"؛ أن هذه
الصفقة الفاشلة كانت وراء سعي الولايات المتحدة إلى تفكيك يوغوسلافيا وإضعافها حتى
بعد وفاة تيتو.
لم يثبت دليل على صحة أو زيف هذا الرأي، لكن المؤكد
أن تيتو كان ديكتاتورا فاسدا لذلك انهار كل شيء بعد وفاته، وتقاتل اليوغوسلاف ثم
ترسخ
الفساد عند من خلفوه، وظل الحرمان يضرب الناس البسطاء في صربيا والبوسنة
والجبل الأسود ومقدونيا وحتى سلوفينيا وكرواتيا رغم انضمامهما إلى الاتحاد
الأوروبي.