هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
مما لا شك فيه أن مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت أداةً وساحةً مُهمة لدراسة المجتمعات وتفاعلها مع قضاياها، فهذه المواقع تعكس التغيرات والمتغيرات البارزة لدى الشعوب، فيُمكن استخلاص مادة ذات دلالة اجتماعية وثقافية ونفسية من المنشورات والتعليقات الرائجة على هذه المنصات حول قضية ما، ولعل واحدة من تلك القضايا المهمة هي وباء كورونا، والذي نلحظ طغيان أسلوب الفكاهة في التعبير الساخر عنه.
لقد لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً مُهماً في تطوير الفكاهة وتغير شكلها، فبعد أن كانت المُزح ومُلَح الكلام والنكت شفهية مسموعة، تُصاغ للمتعة والمرح، صارت أيضا فكاهة مكتوبة وبصرية، ومنشورات تقوم على التلاعب بالألفاظ والجمل، بالاضافة للفيديوهات، والمقاطع المصورة أو المجتزأة، والمُمنتجة من أعمال فنية وأفلام ومسرحيات مشهورة، وتجاوزت ذلك إلى المحاكاة التهكمية وصناعة فن على الفن كتصميم صورة للوحة الموناليزا مثلاً وهي ترتدي كمامة على وجها.
بعض النكت طالت رموزاً سياسية أو دينية محسوبة على السلطة مثل محمود الهباش الذي نسبوا له بأنه سيلغي صيام رمضان، لأن السعودية أوقفت مناسك العمرة، وإيران أوقفت الصلاة في المساجد فلم يجد الهباش ما يوقفه فأعلن أنه سيوقف صيام رمضان.
ومن خلال متابعتي لمنصات التواصل الاجتماعي، خلال الشهور الأربعة الأولى من هذا العام يُمكنني القول بوجود كم كبير من الفكاهة، وهي على تنوعها واختلافها لم تنتهج أسلوباً ثابتاً، وليس لها منحى صياغي واحد، وإن كانت في مجملها قد ركّزت على التناقض في المعنى، وإبراز الدهشة وكسر التوقعات، وربما نحتاج لدراسات كثيرة كي يتم تصنيفها وفهم سياقها.
لماذا الفكاهة؟
من المُسلم به أن الفكاهة ليست وليدة الأزمات والأحداث الاجتماعية الكبيرة، وإن كانت تتجلى وتتضح بها، ذلك أنها مُرتبطة بالطبيعة الإنسانية مُنذ القدم. وحسّ الفكاهة والقدرة على التنكيت يُعتبر سمةً ذات قيمة اجتماعية عالية.
وإنها تشكل هروبا من مواجهة الواقع أو محاولة إنكاره، وتعمل بمنطق خفي لتهدئة التوترات الانفعالية من الحدث، فتقوم بالتنفيس عن الناس، وإشباع المطالب اللاشعورية لهم، وكما يقول كارل ماركس: (الإنسان يُعالج نواقصه عندما يسخر منها).
والفكاهة بنت البيئة التي تولد فيها، تفرزها ظروف سياسية، أو اقتصادية، أو اجتماعية، وفقا لمتطلبات المرحلة، وقد تدفعها بعض الأحداث الكبيرة للتحول لموجة عامة وأسلوب تنشغل به عموم طبقات المجتمع.
الفكاهة في زمن كورونا
سعت الفكاهة في زمن الكورونا من خلال وسائل التواصل الاجتماعي لنقد المؤسسات الرسمية والاجتماعية، ووصفت دورها وأشارت لتقصيرها. ولم يغب عنها التلميح والتعليق على المحرمات الاجتماعية والسياسية والدينية، وبعض النكت طالت رموزاً سياسية أو دينية محسوبة على السلطة مثل محمود الهباش الذي نسبوا له بأنه سيلغي صيام رمضان، لأن السعودية أوقفت مناسك العمرة، وإيران أوقفت الصلاة في المساجد فلم يجد الهباش ما يوقفه فأعلن أنه سيوقف صيام رمضان.
أما الداعية الذي عاد من باكستان وتبين بأنه مُصاب بالكورونا فاتهم بمبالغة بأنه تسبب بالعدوى لسلفيت: "شيخ سلفيت أهدى إثنين للإسلام في باكستان، وأخرج كل الفلسطينية عن دينهم".
كما أن الفكاهة المتعلقة بموضوع وباء كورونا تشير إلى رغبة بعض ناشريها للحصول على الشهرة، ذلك أن مبدعها في الغالب مثقفٌ شعبي مهتمٌ بالشأن العام، يمتلك بديهة حاضرة وذكاء لمّاحا، ولديه القدرة على اصطناع التورية، وصناعة مضمون ساخر ببراعة ولباقة، ولذا يلجأ للفكاهة والنكتة، في الوقت الذي يلجأ فيه آخرون لأجل تحقيق ذات الأهداف إلى الطرق الجادة مثل التدخل بنشر أو إعادة نشر أخبار، أو تقديم نصائح وارشادات، أو آراء وانتقادات.
السخرية من الآخر
تميز الذات والاستعلاء على الآخر، كان أبرز أشكال الفُكاهة في زمن الكورونا وخصوصاً في المراحل الأولى من انتشار الوباء، ولذا بدأت موجهات التنكيت على الآسيويين عموماً والصينيين خصوصا، ومن ذلك المثل المُحور "الخفاش في عين الصيني غزال"، وبدأت التصميمات الساخرة تحمل مواضيع متعددة حول الآخر عموماً، ونظرتنا الدونية له: "معقوله ع آخر هالزمن نموت بفيروس صيني مُش أصلي؟"، و"كل شي مستورد من الصين زباله بعيد عنكم، إلا هالفيروس نخب أول".
الآخر لم يكن الصينيين فقط باعتبار الفيروس خرج من عندهم، بل بدأت تنتقل موجات الفكاهة نحو ايطاليا وأمريكا التي فقدت الآلاف من أبنائها بسبب الوباء، ومن ذلك: "أليس من الطريف أن يصاب ترامب بفيروس صيني يحمل اسم بيرة من المكسيك!"، مشيرين بذلك إلى كره ترامب وعقوباته التي يصدرها باستمرار ضد الصين والمكسيك، وكذلك المقولة التي قيل بأنها إسبانية: "تعطون لاعب كرة القدم مليون يورو، وعالم البيولوجيا 1300 يورو! اذهبوا إلى رونالدو ليجد لكم علاجا للكورونا"، ومن الفكاهة أيضاً أنه تم إلغاء حكمتين لطالما رددها العالم أجمع وهي: "اطلبوا العلم ولو في الصين"، "وكل الطرق تؤدي إلى روما".
من المُسلم به بأن الفكاهة ليست وليدة الأزمات والأحداث الاجتماعية الكبيرة، وإن كانت تتجلى وتتضح بها، ذلك أنها مُرتبطة بالطبيعة الإنسانية مُنذ القدم. وحسّ الفكاهة والقدرة على التنكيت يُعتبر سمةً ذات قيمة اجتماعية عالية.
ثم صار الآخر في الفكاهة الأقرب منا فصرنا نتحدث عن العرب والدول العربية، ثم الحكومات وشخصياتها الإعلامية التي تظهر على الشاشة:
الصين: نجحنا في عزل الفيروس
إيران: نحاول صنع مضادات للفيروس من دم شخص تعافى
أمريكا: نختبر لقاحاً جديد للفيروس
العرب: بس تشوّب الدنيا بيموت لحالو
أما فلسطينياً فقد نالت الفكاهة من وزيرة الصحة الدكتورة مي كيلة، وكانت النكت والتفاعلات ذات طابع جدي وقاسٍ معها، ومن ذلك نشر صورة فكاهية تعلق على قولها عن الجاهزية للتعامل مع الوباء وهذه الصورة حملت تصميما لمعدات تقوم بحفر آلاف القبور الجماعية. ثم تحولت الفكاهة باتجاه الناطق باسم الحكومة الدكتور إبراهيم ملحم، وهنا بدأت الفكاهة تذهب باتجاه مرح وعفوي مقبول ومُتقبل شعبياً. ما دفع بالناطق باسم الحكومة للتفاعل معها والرد على بعضها بنفس الطريقة، ونقرأ ذلك بحمله للصورة التي نُشرت له بعد أن شاب شعره وهو ما زال يطالب الناس باجلوسفينازلهم دون جدوى، ووصف إبراهيم ملحم لأحد المواطنين بأنه صانع بهجة بسبب الفيديو الذي من خلاله طالب الناطق باسم الحكومة بذبح عجل وتوزيعه بدل اقامة الحواجز.
النكته لُغة الناس
الإنسان كائن اجتماعي بطبعة، يحتاج إلى الناس ويهتم بتفاعلهم معه، وهو مجبول على التعاطي مع الأمور المحيطة به، وأحد أشكال تفاعله هو السخرية والضحك، حتى في القضايا المصيرية والجادة، فشر البلية ما يُضحك، كما يُقال.
وقد تنوعت النكت لتشمل الذكور والاناث، والمقارنة بينهم، ووصف النساء أحياناً والتعليق على جلوس الرجال في البيوت، ومن ذلك مثلاً:
ـ "وحدة حطت أولادها عند أمها في بلد بعيدة لما سمعت أنه في كورونا في منطقتها، بعد يومين اتصلت أمها فيها وقالتلها: تعالي خذي أولادك وجيبيلنا الكورونا".
ـ "اليوم في السوق سمعت وحدة بتقول لإبنها: "أعطي الكمامة لأخوك شوي، إنت من الصبح لابسها".
أما أسماء المسلسلات في رمضان لهذا العام فقد أصبحت حسب فكاهات الناس: بقعة كورونا، الكورونا المتساقطة، عندما ينتشر الفيروس، الفيروسات الأربعة، رد لي كمامتي، الكمامة الضائعة، العشق بالحجر الصحي، ربيع بلا كمامات، لن أعطس في وجه أبي".
ولم يسلم الشعر من التدخلات الفكاهية والصياغات الجديدة التي تخدم المرحلة ومن ذلك الشعر الذي نسبوه للشاعر أبو كمامة الكوروني:
قل للمليحة بالقناع الأبيض.. هل غسلت يديك بالمطهر القوي
ولاحقت الفكاهة أصحاب المحلات التجارية: "رحت أشتري بزر من المحمص لقيت الزلمة لابس كفوف، قلتله: يا ريت كل الناس زيك! قالي: آه لازم نخاف ع بعض، بعدين نفخ بالكيس وعباه بزر".
والبعض تصور بأن الكورونا ستنهي الحياة: "آخر واحد بضل عايش سنة 2020 ما ينسى ينزل أمان الكهرباء تاع البلد، ويسكر محبس المي والغاز، ويخلي المفتاح تحت القوارة عشان الأجيال القادمة".
أما النكت ذات الإيحاء الجنسي فكانت حاضرة أيضاً، وإن كان أغلبها تم تداوله على نطاق أضيق من تلك التي يكون موضوعها عاما، مع أنها سريعة الانتشار والتداول من خلال مجموعات الدردشة المغلقة وعبر الرسائل الشخصية. وتركزت على ثلاثة أفكار، الأولى: أن مصاب الكورونا يفقد رجولته وقدرته على ممارسة الجنس، والثانية وكانت بصرية بدرجة أولى فقامت على فكرة أن الجنس أفضل مضاد وعلاج للكورونا، والثالثة: ذهبت لتخيل ورسم شكل الحجر الصحي المطلوب من وجهة نظر الرجال.
وأخيراً تُثبت الفكاهة في زمن الكورونا صحة ما يقال: "إن نزول ماجن ببلدة أجدى على الصحة العامة من عشرين حِمْلاً من الأدوية"، ذلك أنه قادر على صنع البهجة وتغيير مزاج الناس، الأمر الذي تعجز الأدوية عن فعله. وربما نجحت الفكاهة في زمن الكورونا في خلق توازن نفسي يُبقي المجتمع بخير.