هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
منذ صغره كان الشاب الفلسطيني حمزة عقرباوي يستمع بشغف إلى حكايات جده وجدته ووالديه حول أحداث كثيرة ما بين الحقيقة والخيال؛ يقلبها في عقله ويحفظها عن ظهر قلب حتى كبر وبقي في نفسه شغف الحكايات التي تلعب دورا كبيرا في الحفاظ على الهوية الفلسطينية.
ولم يلبث الشاب كثيرا حتى أدرك أن مهنة "الحكواتي" أهم بكثير من الدور النمطي الذي يعتقده الكثيرون؛ فالقضية أكبر من مجرد رواية قصص للتسلية؛ بل هو سرد ملاحم تاريخية تعزز قيم الثورة في نفوس المستمعين بطريقة شيقة تدفعهم لفهم المغزى الحقيقي لها.
وبرز دور الحكواتي في المجتمعات العربية وسط الثورات ضد الاستعمار محركا رئيسيا لها من خلال قصص البطولات التاريخية التي كان يحكيها في المقاهي والدواوين والمضافات، ليساهم في تعميق الوعي الشعبي وصقل مفهوم المقاومة الفكرية.
ومنذ عام 2006 بدأ العقرباوي بجهود مشتركة يعيد فكرة الحكواتي للمجتمع الفلسطيني بعد انقطاعها لسنوات طويلة منذ النكبة الفلسطينية عام 1948، وبدأ مشواره في هذا المجال متحديا العراقيل المختلفة.
ويقول لـ"عربي21": "إن علاقة الفلسطينيين بالتراث والممارسات التراثية عميقة وقديمة؛ ولكن بعد الاحتلال والنكبة والنكسة أصبح اللجوء للتراث والذاكرة والموروث الشعبي واحدا من أدوات النضال ومجابهة الاحتلال".
ويوضح أن استحضار الأدوات والأشكال أداة من أدوات رفض المشروع الصهيوني؛ وواحدة منها هي الحكاية المرتبطة بالإنسان والحضارة والأرض والنباتات والأماكن والمعتقدات والأطباق والمأكولات.
ويعتبر العقرباوي أن الحكايات بالعادة يتم سردها لأن الإنسان يولد حكّاءً ويجعل لحياته قيمة ومعنى من خلال ما يسرده من حكايات، مبينا أن الحكواتي مهنة كانت موجودة وتوقفت بسبب الاحتلال، حيث كان يحكي القصص في المضافات والمقاهي في المدن أو البيادر وأماكن التجمع في الأرياف، وكان يسرد السير الشعبية لعنترة بن شداد وأبي زيد الهلالي وحمزة البهلوان والأميرة ذات الهمة والسير والملاحم الطويلة في عدة ليالي، ثم أصبحت الجدات يحكين القصص الشعبية والخرافية مثل "جبينة" و"نص نصيص" وغيرها للنساء والأطفال.
وبعد انقطاع دور الحكواتي في فلسطين بسبب الاحتلال وتتابع النكبات بدأ الملتقى التربوي العربي عام 2004 يبحث عن طرق لاستعادة مركزية القصة في الفن والرواية والحكايات؛ وشرع بتدريب عشرات الشبان والشابات على فن الحكاية والقصص في عدة دول عربية عن طريق مؤسسات مختلفة.
ويوضح العقرباوي أن أفراد المجموعة التي ينتمي إليها عملوا في مهنة الحكواتي بشكل منفرد وقرروا عام 2012 أن يعلنوا مجموعة لهم في هذا الفريق الذي واصل عمله حتى الآن في مهرجانات وعروض وورشات تدريبية ومخيمات وأنشطة متعددة لتعزيز فن الحكاية لدى الكبار والصغار.
بعد انقطاع دور الحكواتي في فلسطين بسبب الاحتلال وتتابع النكبات بدأ الملتقى التربوي العربي عام 2004 يبحث عن طرق لاستعادة مركزية القصة في الفن والرواية والحكايات؛ وشرع بتدريب عشرات الشبان والشابات على فن الحكاية والقصص في عدة دول عربية عن طريق مؤسسات مختلفة.
ويتحدث العقرباوي عن طبيعة القرية الفلسطينية التي تساهم في تعزيز مهنة الحكواتي؛ حيث إن الناس في القرى يولدون حكائين بالفطرة ويرضع الطفل الأمثال والقصص الشعبية كما يرضع الحليب من أمه.
ويضيف: "جدي كان يحفظ القصص وتاريخ القرية والقرى المجاورة وكان الناس يقصدونه ليسمعوا منه ذلك؛ ووالدتي كان تقرأ لنا القصص قبل النوم كل ليلة ووالدي عمل في الزراعة وخلال ذلك كان يسرد القصص والحكايات".
وبعد فهمه لأهمية دور الحكواتي بدأ حمزة بمشروع جمع التاريخ الشفوي والذاكرة؛ وتم تأسيس فريق حكايا فلسطين وشارك في محاورة بمدينة جرش الأردنية حيث يلتقي الحكواتيون، ومن هناك بدأ يمثل فريق حكايا فلسطين الذي يشمل مختلف المدن والأرياف، مبينا أنه لم يكن حكواتيا في البداية ولكن الناس قدموه على أنه حكواتي لأن البيئة جعلت الناس ترتبط بهذا الفن.
وفي طريقه نحو الحفاظ على هذه المهنة واجه حمزة عراقيل عدة تمثلت أولها باستهجان الناس خاصة أنه بدأ مشواره بتوثيق الحكايات من كبار السن وترك وظيفته الأساسية وانشغل بوقت كامل في هذا المشروع، فلم يكن هناك تقبل في البداية لفكرة عودة الحكواتي خاصة أن الاعتقاد السائد كان أن الحكواتي هو مجرد مسلٍّ للأطفال يروي القصص لهم دون مغزى.
ويرى العقرباوي أن جزءا أساسيا من وظيفة الحكواتي هو سياسي اجتماعي والتحريض على صناعة الوعي وصناعة الأنفة والشجاعة ومقاومة الاستعمار؛ حيث كان الحكواتيون يسردون على سبيل المثال لعدة ليال قصص الظاهر بيبرس ومقارعة الصليبيين ويبثون الشجاعة والقوة في نفوس المستمعين.
أما العراقيل الأخرى فكانت على يد الاحتلال الذي احتجز حمزة عدة مرات على معبر الكرامة الحدودي أثناء سفره ومن ثم أصدر عام 2018 أمرا بمنع السفر بحقه؛ لأنه أدرك أن الدور الذي يقوم به ليس فقط عودة الحكواتي بقصصه الشعبية وإنما المساهمة في صناعة الوعي وإيصال رسالة اجتماعية سياسية وهذا يشكل إزعاجا للاحتلال.
لا شك أن الهوية والذاكرة واحدة من أدوات صراعنا مع الاحتلال؛ ونحن حريصون على إبقاء هذا الموروث في عقول صغارنا وكبارنا ولدينا رؤية لاستعادة مركزية القصة في الفن والتعلم وأن يعود الشخص قادرا على التواصل الشفهي بحيث لا تبتلعنا وسائل التواصل الاجتماعي الإلكتروني
ومن ضمن الفعاليات التي ينظمها هذا الفريق بشكل دوري مهرجان حكايا في آذار ومهرجان سيرة السلطان في شهر رمضان ومخيم فن وحكي الصيفي وتدريب في شهر كانون الثاني من كل عام حول فن الحكاية إضافة إلى فعاليات ومهرجانات ثقافية وفنية مختلفة، كما أن المدارس تطلب هذا الفريق لإعطاء حصص في هذا الفن.
ويوضح العقرباوي أن الفريق يعمل على تحويل المادة التاريخية لحكايات وقصص عن الأرض والعودة والنكبة والمهجرين، وكذلك يتم في مهرجان "خير يا طير" سرد قصص التهجير والنضال ضد الاحتلال ومحاولات الحفاظ على الهوية والحضارة والتراث.
ويرى حمزة بأن السنوات الخمس الأخيرة شهدت تحولا كبيرا في فن الحكاية؛ حيث ارتفع عدد الحكواتيين إلى 30 في أرجاء فلسطين، بينما أظهرت الأزمة الحالية جراء فيروس كورونا الحاجة إلى سرد القصص في ظل اجتياح التكنولوجيا لأوقات الناس.
ولم يتوقف حمزة عند هذا الحد بل كان واحدا من فريق "تجوال سفر" كمرشد متطوع يقوم بسرد حكايات وقصص للأماكن خلال الجولات التي يقوم بها الفريق، وهو إعادة سرد تاريخ للأماكن المرتبطة بالهوية والثقافة الفلسطينية.
ويتابع: "لا شك أن الهوية والذاكرة واحدة من أدوات صراعنا مع الاحتلال؛ ونحن حريصون على إبقاء هذا الموروث في عقول صغارنا وكبارنا ولدينا رؤية لاستعادة مركزية القصة في الفن والتعلم وأن يعود الشخص قادرا على التواصل الشفهي بحيث لا تبتلعنا وسائل التواصل الاجتماعي الإلكتروني لأن موروثنا يجب أن يبقى متداولا وماثلا بالذاكرة والهوية ما دام هناك صراع مع الاحتلال".
ويحرص العقرباوي على نقل هذه الرسالة الاجتماعية لأطفاله الثلاثة عبر الاستمرار في قراءة القصص لهم وإنشاء مكتبة صغيرة تضم قصصهم والطلب من طفله ابن الأعوام الستة أن يقرأ له القصص ويعيد سردها.