(1)
"
المصريين أهُمَّه".. قفزت هذه الجملة المشهورة إلى ذهني لا إراديا، أثناء مشاهدتي فيديو المواطن المصري حسام ماضي الذي
سحله الأمن السعودي، في شهر رمضان المبارك، شهر التسامح والتغافر والتراحم؛ لأنه تجرأ وهدَّد (مجرد تهديد) بالاعتصام أمام قنصلية بلاده بجدة، إلى أن تتم إعادته وغيره من المصريين العالقين في السعودية إلى أرض الوطن، أسوة بالمصريين الذين أجلتهم دولة الكويت عن أراضيها على نفقتها؛ بسبب جائحة كورونا، بعد أن ساومتها
سلطة الانقلاب على ذلك!
"المصريين أهُمَّه" تعني في العموم: ها هم المصريون.. قد تقال في مقام التباهي والفخر، بمعنى: ها هم المصريون.. ما أعظمهم! وقد تقال في مقام السخرية والاستهزاء، بمعنى: ها هم المصريون.. "ما أحقرهم"!.. وقد قيلت في كلا المقامين بألسنة "مصرية" كما سيأتي.. وقد تقال في مقام الرثاء والحزن، بمعنى: ها هم المصريون.. ما أتعسهم في ظل سلطة انقلابية أهانت المصريين فكانوا على غيرها أهون، وهذا هو المعنى الذي سطرته عبراتي على وجنتيَّ عند مشاهدة الفيديو المذكور.
في المقام الأول (التباهي).. جاءت الجملة في صورة "مخدِّر" يدغدغ المشاعر، أرادت السلطة (في ذلك الوقت) للشعب أن يتعاطاه "مرة واحدة يوميا" على الأقل، حتى أدمنه، وصار "نشيدا قوميا" يتردد في كل المناسبات "الوطنية"، وفي جنبات الملاعب كلما واجه المنتخب المصري منتخبا أجنبيا، حتى نسي المصريون نشيدهم الوطني "بلادي بلادي.. لك حبي وفؤادي" أو كادوا..
وفي المقام الثاني (التحقير).. كانت الجملة بمثابة "بصقة" من سلطة الانقلاب على وجه الشعب المصري، أو "دعسة" على رأسه بالبيادة العسكرية قاسية النعل، كي يشعر بالانسحاق والدونية!
الجملة في سياقها الأول، أعطت المصري إحساسا زائفا بالتفرد والتميز على كل خلق الله، كونه ينتمي لـ"أوِّل أمة"!.. وفي سياقها الثاني، حاولت إقناعه بأنه "إمَّعَة تافه".. "هتقول له يمين تلاقيه بيروح.. هتقول شمال تلاقيه بيروح"!
الجملة في نسختها الأولى، كانت مطلعا لأغنية كتبها الراحل صلاح جاهين، وغنتها ياسمين الخيام.. ولا أدرى إذا كان جاهين كتبها انفعالا بمشهد عبور الجيش المصري قناة السويس وخط بارليف الحصين في تشرين الأول/ أكتوبر 1973؛ لترميم نفسه المحطمة، والخروج من حالة الاكتئاب التي لازمته بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967، حتى مات في 1986، أم كلفته الشؤون المعنوية بـ"توليفها" كجرعة "مخدرة"، في سياق كان يتطلب غياب الشعب عن الوعي، كي يصدق أنه أحرز أول نصر حقيقي على العدو الصهيوني، بينما الحقيقة المُرة تؤكد أن الرئيس السادات أرادها حرب "تحريك" لموقف متأزم، لا حرب "تحرير" لأرض محتلة؟! والغريب في الأمر، أن هذه الأغنية شقت طريقها إلى الآذان في عهد مبارك وليس في عهد السادات!
أما النسخة الثانية من الجملة نفسها، فكانت تمهيدا لتلك "البصقة" التي لا أعرف مَن ارتضى أن يجعل منها "أغنية"، لكن المؤكد أن أول عرض لها كان على شاشة "إم بي سي مصر" في منتصف شهر آذار/ مارس 2015، كما هو مذكور في وصف الفيديو، ضمن البرنامج الساخر "أسعد الله مساءكم" الذي يقدمه ضابط الشرطة (السابق) أكرم حسني، متقمصا شخصية تُدعى سيد أبو حفيظة، وأدَّتها إحداهن بصوت مجلجل، بينما ظهرت على الشاشة عجوز من فئة الكومبارس تحرك شفتيها بالكلمات! ومن الأهمية بمكان، لفتَ الانتباه إلى أن 2015 هو العام الذي شهد أعلى موجات المد الشعبي المناهض للانقلاب على الشرعية في مصر، حتى ظن المصريون أن الانقلاب على وشك السقوط!
ومن المعلوم بالضرورة في بلادنا التي ترزح تحت الاحتلال بالوكالة، أن تشكيل وعي المواطن، وشخصيته، وقناعاته، ومواقفه هو من أعمال "السيادة" التي من غير المسموح لأي جهة كانت "العبث" بها، إلا بإذن من "الأجهزة السيادية" أي أجهزة المخابرات، أو بتكليف مباشر منها.. أما التنفيذ فيكون (دائما) بأسلحة "القوة الناعمة"، أي "الفن" بكل قوالبه وأنماطه!
(2)
تقول
النسخة المخَدِّرة من أغنية "المَصريين أهمه":
"المَصريين أهمه.. في الدنيا أوِّل أمَّة / مُتحضرين ومؤمنين / المَصريين أهمه.. حيوية وعزم وهِمَّة / جيل بعد جيل متقدمين / المصريين..".
كلام لا أصل له، ولا دليل عليه! خلَق شعورا زائفا لدى المصريين بالتفوق على الشعوب الأخرى، لا سيما العربية والأفريقية منها! وهذا سلوك يرفضه ديننا الحنيف جملة وتفصيلا، ويعتبره سلوكا جاهليا بامتياز! فلماذا أرادت السلطة غرس هذه الإحساس الاستعلائي (غير الكريم) لدى الشعب المصري تجاه أشقائه العرب وجيرانه الأفارقة؟ ولحساب مَن؟!
أما
النسخة "الانقلابية" من "المَصريين أهمه" فتقول:
"المصريين أهمه.. بقى ينفع كدا بالذمة؟ / بنموت في الهلس ومش فالحين / المصريين أهمه.. بنحب الزيطة واللمَّة / في الأي كلام تلقينا جايين / المصريين..".
إهانة بالغة للشعب المصري كله دون استثناء! وتسفيه له، وحَط من شأنه! فهل كان ذلك ردا من "الدولة العميقة" على الشعب الذي خرج بأعداد مليونية في 25 يناير 2011 وما بعده للمطالبة بالحرية والعدالة الاجتماعية، ثم إسقاط النظام، فعمدت إلى وصف هذه الانتفاضة العظيمة بـ"الهلس" و"الزيطة" و الـ"أي كلام"؟! أم أن سلطة الانقلاب أطلقت هذه "القذائف الموجهة" لتدمير ما بقي من عزيمة الشعب الذي لم يتوقف عن التظاهر ضد الانقلاب على مدى سنتين؟!
في السياق ذاته.. لا يخفى على أحد رغبة ومصلحة النظام السعودي (مالك إم بي سي الأم، وممول إم بي سي مصر) في انهيار معنويات الشعب المصري الذي إذا نجح في إصلاح أحواله، فلن يكون أمام الأنظمة المستبدة في المنطقة العربية من سبيل إلا المبادرة بتقديم تنازلات حقيقية لشعوبها، والقيام بإصلاحات جذرية، إذا أرادت الاستمرار في الحكم.
تقول النسخة المخَدِّرة:
"المصري في أي تاريخ ميلادى أو هجري / وفي أي مكان وزمـان هُوَّا هُوَّا المصري / لسمر أبو ضحكه ترد الروح / أعرفه من بين مليون إنسـان / صاحب واجب يفديه بالـروح / ولا يرضـى بذل ولا بهـوان / المصريين أهمه..".
ما علاقة المصري بالتاريخ الهجري إلا إذا كان مسلما؟! وإذا كان الإنسان مسلما، فما أهمية أن يكون مصريا أو جزائريا أو زيمبابويا؟ ألا يكفيه عزا وشرفا ورفعة بين العالمين أنْ مَنَّ الله عليه بالإسلام؟!.. "ولا يرضى بذل ولا بهوان"! إذا كان ذلك صحيحا، فلماذا سكت السواد الأعظم من هذا الشعب على فساد مبارك ثلاثين سنة؟ ولماذا يلوذ (اليوم) بالصمت، رغم تعرضه (يوميا تقريبا) لصور شتى من الإهانة والتحقير على يد الجنرال المنقلب؟! ولماذا السكوت على بقاء المعتقلين في أقبية السجون غير الآدمية، رغم تفشي فيروس كورونا في مصر؟!
أما النسخة "الانقلابية" فتقول:
"المصري منين م يشوف الهلس عليه يجري / دايما بيقول الهلس أعمله بصباع رجلي / هتقول له يمين تلاقيه بيروح / هتقول له شمال تلاقيه بيروح / ماشي مع الهوجة وقشطة يا مان / فيس بوكه طول اليوم مفتوح / والكاندي كراش عنده إدمان..".
شعب تافه.. إمعه.. عبيط.. "كلمة توديه وكلمة تجيبه" كما يقول المثل الشعبي المصري!! أدمن إهدار الوقت.. لا يصنع شيئا مفيدا لنفسه ولا لغيره.. عايش في العالم الافتراضي، لا يدري شيئا عما يدور حوله!! فإن كان بعض المصريين كذلك، فإلى أي شعب ينتمي هؤلاء المصفدون بالأغلال في سجون الانقلاب، والمنفيون في الخارج، والمطاردون في الداخل، وقبل كل هؤلاء، الشهداء الذين لم يبخلوا بأرواحهم نصرة للحق، وحفاظا على حق الشعب في الاختيار؟!
هكذا تناوبت السلطات "الوطنية" المتعاقبة على الشعب، في بلد "السبعتلاف" سنة حضارة.. تخديرا وتغييبا عن الوعي وتزييفا للحقائق مرَّة، وتسفيها وتحقيرا وتحطيما للمعنويات مرة! وإذا كانت جُل السلطات في بلاد العرب قد انتهجت سبيل التخدير وتزييف الحقائق، فإن سلطة الانقلاب في مصر قد حازت قصب السبق في إهانة وتحقير وتسفيه الشعب المصري! عقابا له على قيامه بانتفاضته العظيمة في 25 يناير 2011 التي لم تخمد جذوتها بعد، وإن بدا للعيان أنها خمدت.. وتنكيلا به؛ لأنه قال للعسكر "لا"، وقال لخصومهم "نعم" في أول انتخابات حرة تشهدها مصر، منذ عرف العالم الانتخابات.
"المصريين أهمه".. ولكن بأي معنى؟!
الإجابة النموذجية عند الأجيال القادمة، خالية من التعالي الفج، والإذلال المُهين، والحسرة القاتلة.