مقابلات

باحث تونسي: الخطاب القرآني منفتح على الشرط الحضاري للأمة

الكاتب التونسي محمد الجلالي: "الكريم" لغة هو الذي يُعطي على قدر الحاجة بخلاف "الجواد"- (فيسبوك)
الكاتب التونسي محمد الجلالي: "الكريم" لغة هو الذي يُعطي على قدر الحاجة بخلاف "الجواد"- (فيسبوك)

بقدر ما ترك تسونامي فيروس كورونا أخاديد غائرة في الأنفس والأموال، بعد ستّة أشهر على بداية انتشاره من مدينة أوهان الصينية، فإنّ تبعات موجة هذا الوباء قد لامست ما يسمّيه الفقهاء بـ"فقه النّوازل"، منبئة بحدوث مراجعات فكرية وفقهية عميقة. مراجعات قد تلقي بظلالها على تجديد الخطاب الدّيني، القرآني على وجه الخصوص، باعتباره الجسر المتين بين القرآن والإنسانية دونما مغالاة أو تطفيف.

ولئن حظي النصّ القرآني ببالغ اهتمام دارسيه، تفسيرا وتأويلا على مرّ الحقب  السالفة، فإنّ ما يميّز المتأخّرين منهم هو توظيفهم المنـاهج البنيوية الحديثة في التفسير كعلوم اللسانيات والسيميائيات، مركّزين جهودهم بالخصوص على فهم آليات اتساق النصوص وانسجامها، وهو ما أفضى إلى خلق مناويل جدّ فعّالة لتحليل الخطاب القرآني، والتي تسند خمائر جهود المفسّرين السابقين من ذوي الاتجاه اللغوي والبياني، مثل أبي القاسم الزمخشري وفخر الدين الرازي ومحمد الطاهر بن عاشور، الذين اجتهدوا، دون معاصريهم، في الكشف عن البعد النصّي في القرآن.

ولئن بدا هذا المجال حكرا على المشتغلين على النصوص القرآنية، من ذوي التخصص الأكاديمي، فإنّ الجهد البيّن والثقافة الموسوعيّة اللتين أبداهما الأستاذ محمّد الجلاّلي، المحامي والكاتب والقاضي التونسي السابق، طيلة السنوات الأخيرة في إطلالاته الإعلامية الرمضانية من على منابر الفضائيات التونسيّة، قد أسهم في فتح مداخل معرفيّة جديدة في تدبّر القرآن، وكشف بعض هنات التفاسير القرآنية الحديثة والعوائق البنيوية والمعرفية التي قد تحول دون انفتاح القرآن على ما يسميه هو بالشرط الحضاري للأمّة.

الإعلامي التونسي الحسين بن عمر التقى المحامي والشاعر والباحث التونسي محمد الجلالي، واجرى معه الحوار التالي الخاص بـ "عربي21":
 
س ـ بداية ما مدى الحاجة اليوم إلى خطاب قرآني عصري، في ظلّ وجود هذا الزخم الكبير من الموروث التفسيري؟

 
 ـ من المهم الإشارة إلى أنّه رغم أهمية الموروث التفسيري للقرآن الكريم وجودته فإنّ رحلة البحث عن المعنى وتدبّر الحقيقة المراد بها من الله ماضية ومتواصلة بتواصل مهمّة الاستخلاف. ولا يمكن بأي حال من الأحوال النظر للقرآن وعلومه من منظار الأرضية المعرفيّة للقرن الثالث هجرية زمن محمد بن جرير الطبري أو معاصريه، على أهمية جهدهم. القرآن مفتوح على الشرط الحضاري، بمعنى أنّ تولّد المفاهيم والتفاسير مرتبط بارتفاع سقف المعرفة الإنسانيّة. كما أنّ كلّ مفسّر للقرآن الكريم يفسّر بحسب الأرضية المعرفية التي وجد فيها. 

فلو تأمّلنا مثلا في الآية 59 من سورة النساء: "يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرّسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرّسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا"، فإنّ قراءتي لمفهوم "أولي الأمر" الوارد في الآية مختلف عمّا ذهب إليه ابن كثير وغيره. فالله هنا قال "أولي الأمر منكم" ولم يقل "أولي الأمر عليكم" حتى لا يفهم من الآية الرّضوخ للغلبة والقهر والانقلابات العسكرية على إرادة النّاس، ولم يقل عزّ وجل "أولي الأمر فيكم" حتى لا يذهب المراد إلى الرّضوخ لأهل الجاه والثراء. فعدم تعرّض الفقهاء السابقين إلى كذا تفسير دافع كبير للتدبّر في كنه الآيات.
 
القرآن يجب أن يكون منفتحا على الشرط الحضاري. فهو آخر كتاب أُنزل وآخر عهد بالسّماء وفيه إجابات وجودية وفلسفية، من قبيل الإجابة على سؤال: "من خلق الكون؟" و"ماهي مُهمّتنا؟" و"إلى أين نمضي؟". لكن البشرية تبقى في حاجة متواصلة إلى ذهن أعمق ومتحفّز حتى يُدرك بقية الحقائق العلمية الكبرى حتى ينجح في مهمة الاستخلاف. ثم ّإنه يكفي المتدبرين حجّة أن القرآن بدأ بآية "اقرأ"، التي تعني الإيذان ببدء عصر المدنية والعلم والمعرفة. وهذا ما يضع مسؤولية على المفسرين بضرورة توليد قراءات متجدّدة تتماشى مع الأرضية المعرفية للمجتمعات.

س ـ لكن ما هي ضوابط التدبّر القرآني المتجدد وشروطه؟


 ـ فتح باب الاجتهاد على القراءات القرآنيّة منوط بضوابط ولاشك، أهمّها وجوب عدم الانحراف عن الدلالات والأساليب البيانية في اللغة العربية وألا يتناقض التدبّر مع ما تقتضيه الشريعة (الشريعة بمفهوم ابن رشد)، بوصفها رافدا من روافد المعرفة، ويجب ألاّ يتناقض التدبّر مع العقل عند المتأمل المتبصّر. هذا فضلا عن الشّرط المنطقي، المتمثّل في عدم التناقض في الطّرح وألاّ يُؤتي التفسير ونقيضه. 

س ـ وهل يجوز التدبّر في مفهوم الآيات التي سبق تفسيرها من قبل الرّسول؟


 ـ لا يفوت القارئ أن الرّسول لم يفسّر القرآن إلا آيات بعدد، وهذا بحسب ما يُروى عن زوجه عائشة. وقد اقتصر تفسيره على بعض آيات العبادات دون سواها لأنّ قضايا علم الكلام لم تظهر إلا لاحقا في القرن الثاني للهجرة. وقد أجاب محمد متولي الشعراوي عن هذا السؤال بالقول إنّ الرّسول "ترك القرآن فيما يتعلّق بغير التكليف للزمن وما زاد عن الأحكام المطلوبة فالزمن كفيل بتفسيره. وعدم تفسير الرسول لكونيات القرآن هو توسيع لعطاء العقول".

س ـ ذكرت أنّ القرآن مفتوح على الشرط الحضاري، فما هي شروط الانفتاح على الشرط الحضاري؟


 ـ وصف الله القرآن بالحكيم والعظيم والمجيد والكريم. إلاّ أنّه مع تعدّد كلّ هذه الأوصاف التي أطلقها الله على القرآن، فإنّ الله لم يُقسم إلّا مع صفة الكرم وذلك في سورة الواقعة (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ). و"الكريم" لغة هو الذي يُعطي على قدر الحاجة بخلاف "الجواد"، الذي يعطي على قدر السؤال. وبالتالي نفهم من ذلك أنّ القرآن يعطيك على قدر استعدادك المعرفي في كل عصر وآن، وهو ما يجعله مفتوحا على الشرط الحضاري شريطة أن يكون المتدبّر للقرآن متطهّرا روحيّا من المذهب والطّائفة ونوازع الشر وتكون منتصرا للمعنى، قادرا على استكشاف درر القرآن المكنونة. وهذا ما عناه القرآن بآية: "إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسّه إلا المطهّرون" من سورة الواقعة. والمسّ هنا إدراكي لا لمسا حسّيا كما هو الحال في سورة مريم عند قولها "لم يمسسني بشر"، لا بمعنى آية "لامستم النساء" في سورة النّساء. هذه شروط ذاتيّة والشروط المعنوية تتمثل في ضرورة إلمام المتدبّر للقرآن بعلوم عصره وبالتفاسير والأساليب البيانيّة وأسباب النزول وغيرها. الانفتاح على الشرط الحضاري يتطلّب ذهنيّة منتصرة للمعنى وللحقيقة وللإنسان.

س ـ هل نفهم من كلامك عن ضرورة التدبّر المتواصل في حقائق القرآن العلمية، بضرورة إعمال التأويل المتواصل للنصوص وعدم الرّكون إلى التفاسير الظاهرة؟ 


 ـ أرى أنّه لا علاقة للتأويل لا بالتفسير ولا بالتدبّر. التأويل لغة هو العلم بمآلات الشيء والتأويل هو العلم بوقوع الشيء مستقبلا على الوجه المراد من الله. وقد ذكرت كلمة "تأويل" حوالي خمسة عشر مرّة. وأهم ما أثار الجدل فيها هي آية "وما يعلم تأويله إلاّ اللّه" الواردة في سورة آل عمران. والدليل على معنى التأويل بما هو علم بمآلات الأمور قبل تحققها واقعا هو ما ورد مثلا في سورة "يونس" (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله) وكذلك آية "ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون. هل ينظرون إلا تأويله..." من سورة "الأعراف"، التي تعني فيها كلمة "تأويل" حدوث الواقعة. وفي سورة الكهف كان العبد الّصّالح عالما بوقوع الأشياء على الوجه المراد من الله عكس موسى. 

إنّ الله جعل نبوءات تتحقّق بالاستدعاء الزّماني. وخير مثال على ذلك الآيات التي لم يحن تأويلها بعد مثل الآية 82 من سورة النمل: "وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم". فنحن لا نعرف على وجه الدقة ما طبيعة هذه الدابّة إن كانت فيروسا أو روبوتات أوغيرها. وكذلك آية "حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة" من سورة الكهف.

س ـ هل سأل الصحابة الرسول عن تفسير هذه الآيات التي تقول بعدم تحقق تأويلها؟


 ـ لئن لم ينشغل الصحابة بالسؤال عن جدل علم الكلام، انشغال التابعين في القرون اللاحقة التي ظهر فيها علم الكلام والفلسفة، فقد سألوا الرّسول عن معنى آية سورة البقرة: "يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج"، فقد قام الرّسول بتصريف سائليه تصريف الحكيم، أي استعمل أسلوب الحكيم في البيان. وفعل الرّسول نفس الشيء مع صحابته، عند سؤالهم له عن سبب تغيّر حجم القمر.

س ـ ارتفاع سقف المعرفة للشعوب والمفسّرين ألا يحوّل الآيات المتشابهة إلى آيات محكمة؟ 


 ـ نعم هذا صحيح وقد أشار إلى ذلك الشيخ محمّد الطّاهر بن عاشور. فبارتفاع سقف المعرفة تتحوّل بعض الآيات القرآنيّة من آيات متشابهة إلى آيات محكمة. ومثال ذلك الآية 42 من سورة "يس": "وخلقنا لهم من مثله ما يركبون". فعرفنا اليوم أن كلمة "من مثله" يقصد بها الطائرات والقطارات والتي تشحن كما تشحن السفن. ولذلك قال الله عزّ وجل "حملنا ذرّياتهم" بمعنى أن هذا الأمر ينطبق على مستقبل الأولين الذين لم يعاصروا وجود الطائرات والقطارات وغيرها. 

س ـ هل يتطلب التدبّر في الخطاب القرآني قطيعة معرفيّة مع الموروث التفسيري للقرآن؟


 ـ تختلف المفاهيم والمصطلحات بتغيّر الزمن وتحسّن سقف المعرفة الإنسانيّة، لكن لايجب القطيعة مع الموروث التفسيري ومجال المعرفة تراكمي بالضرورة. كما أنّ بنائية النص القرآني من بنائية الكون الذي هو كلمات الله. وبالتالي كنه عوالم الكون يتطلب تراكما معرفيا فإن حسن تدبّر المراد من كتاب الله يتطلب بناء معرفيا تراكميّ ولا شك.

س ـ إلى أيّ حد يمثّل حسن تدبّر القرآن وتفسيره بديلا عن الخوارق والمعجزات التي كان يؤتيها الأنبياء؟  


 ـ في السابق كان الله ينزل خوارق حسية تخرق القوانين وكان الأنبياء يتوسّلون إلى الله تنزيل هذه الخوارق كي تطمئنّ قلوب المؤمنين برسالاتهم، كما حدث مع عيسى. فقد جاء في الآية 114 من سورة المائدة: "قال عيسى ابن مريم اللهمّ ربّنا أنزل علينا مائدة من السّماء تكون لنا عيدا لأوّلنا وآخرنا وآية منك" والتجأ عيسى كذلك إلى إحياء الموتى (بأمر الله) واحتاج موسى إلى معجزة العصا. لكن بدخول مرحلة اقرأ، دخلنا مرحلة المعرفة والتدبّر الذاتي لمفهوم القرآن على الوجه الذي يريده الله. وما على الانسان المستخلف في الأرض إلاّ حسن قراءة الكون.

بنزول القرآن انتهت حاكميّة الله المباشرة وتحولت إلى حاكميّة علم ومعرفة، طبعا ضمن الشروط الكبرى. مهمّة الاستخلاف ما بعد نزول الرّسالة الخاتمة تمنح مبدأ الحرّية، أساسا من أساسيات الوجود الإنساني. وحسب الإنسان المستخلف في الأرض أن جعل الله مبدأ الحريّة من ضمن المتقابلات الكونية، كما يقول الفيلسوف السوداني الراحل أبو القاسم الحاج حمد، والتي تستشف في سورة "الشمس": "وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا، وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا، وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا، وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا، وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا".

س ـ في الوقت الذي يتم فيه الحديث عن ضرورة تجديد الخطاب القرآني، ما بعد كورونا على وجه الخصوص، لا تزال فئة كبيرة من الشباب المتديّن ميّالة إلى الغلوّ والتشدّد في قراءتها للنصوص القرآنية، ما رسالتك إلى هؤلاء الشباب؟ 


 ـ على الشباب المتديّن والميّال إلى التفاسير المغالية أن يفهم أنّ القرآن منظومة متكاملة كمنظومة الكون في قوانينها وتراتبها، فهو معادل للكتاب المنظور (الكون). وأن الآية 91 من سورة "الحجر" التي تقول "وجعلوا القرآن عضين" إنّما نبّهت من قراءة القرآن آيات منفصلة عن بعضها البعض. وبالتالي لا يجب على الشباب التسرّع في إصدار لوائح من الأحكام الجزائية في حق مخالفيهم في الرّأي والحرص على فهم القرآن كلاّ لا جزءا، وتدبّرا لا تفسيرا ظاهريّا، حتى يتحقق المراد الأقوم من كلام الله. وعليه أن يفهم أن الحدود في القرآن ما هي إلا العقوبة القصوى للمخالفات ولا مانع من خفض هذه الحدود كما فعل سيدنا عمر في عام "الرّمادة" مع حدّ السرقة.

معركة تحصيل المعرفة لا تتوقف وكذا معركة تجويد الخطاب القرآني، بما يتماشى وعلوم البيان والحقائق العلمية، وهي الطريق القويمة لكُنه القرآن وعلومه. إنّ الله طلب منّا التدبّر في القرآن، وهذا الأخير أشمل من التفسير وهو عمليّة عقلية تتكامل فيها ثلاثة أبنية: النصية (الآية) والسياقية والذهنية (شروط العلم بالنحو والصرف وثقافة العصر وإلمام شامل)، وأن نقتنع بأن في إدراك معاني القرآن انتصارا للإنسانيّة.

التعليقات (0)